الإيثار: تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة، يقال: آثرته بكذا، أي: خصصته به (الإمام الشوكاني، فتح القدير، ج5، ص 239). وعكس الإيثار الأثرة، والتي يمكن تعريفها بأنها «تقديم النفس على الغير في حظوظ الدنيا»، والنفس مجبولة على الأثرة لا الإيثار، ولذلك فإن الإيثار يحتاج إلى علو همة وإخلاص لله تعالى وحكمة عند المؤثر يعرف بها قيمة الدنيا وحظوظها، وفضل الأخوة فيما بين الناس ودور الإيثار في تعضيدها وتقويتها ودوامها. والإيثار هو احدى أهم القيم الوظيفية، لأنه يعتبر أساسا قويا للحب والتعاون والتكافل والتعاضد فيما بين الموظفين، فهو بطبيعته يمنعهم من الصراع فيما بينهم، والذي ينعكس على أعمالهم بالسلب، ويعود عليها بالفشل، ولكنه - رغم ذلك - يبقي على المنافسة الشريفة لمصلحة العمل، وليس لمنفعة الذات فقط، كما في الأثرة. ومرجع هذا إلى أن الموظف المؤثر لا يرى حظ نفسه وحده، بل ينظر إلى مصلحة غيره، ويقدمها على نفسه في غالب الأحيان، ومن هذا الغير بالتأكيد المؤسسة التي يعمل بها، والتي يؤثرها على نفسه من باب أولى، وهي صاحبة الفضل عليه - بعد الله عز وجل - لما تحققه له من استقرار مادي، وكذلك معنوي، وبخاصة ما تمنحه إياه من أمن وظيفي ينعكس على حياته الخاصة بالسكينة ويشبع رغبته الفطرية في أن يكون شيئا مذكورا. وزملاء العمل يكونون أهلا كذلك للإيثار، بصفتهم الإنسانية وكذلك الوظيفية، ولهذا فإن الموظف المؤثر حقا هو من يؤثر زملاءه عليه في كل شيء، إلا ثلاثة أشياء: الوقت، والدين، وصلاح القلب، وهي الأمور الثلاثة التي حددها الإمام ابن القيم لمعنى الإيثار المحمود (راجع كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين، ج1، ص 446). فيما عدا ذلك فما أجمل أن يكون الإنسان مؤثرا لغيره على نفسه حتى لو كان به «خصاصة» أي حاجة، مثلما تكون هناك فرصة مثلا لرحلة عمل بالخارج يعلم الموظف أن زميلا له أحق بها بحكم خبرته وكفاءته، فالإيثار المحمود هنا هو عدم قيامه بمزاحمة زميله ليحصل هو على تلك الفرصة طالما كانت الأولوية لزميله، وأما الإيثار المذموم، فمثاله أن يرفض الموظف هذه الفرصة رغم علمه أن مصلحة العمل تقتضي أن يقوم هو - لأسباب موضوعية- بهذه الرحلة، وبالتالي فإنه يتخذ الإيثار حجة لعدم استفادته من هذه الفرصة. إن الإيثار بمفهومه المحمود يمثل داعما رئيسيا لقيمة التكافل فيما بين الموظفين، ومساعدا أساسيا على تعاونهم لأجل القيام بما من شأنه النهوض بالمؤسسة التي يعملون فيها. وإذا كان الإيثار يمثل مانعا حاسما للصراع غير الشريف فيما بين الموظفين، إلا أنه لا يتنافى مع الطموح والمنافسة المشروعة بل يرشدهما، ويضع عليهما قيودا تمنع الموظف من التجاوز غير الأخلاقي في حق زملائه. والإيثار الأنفع للموظف (وللمؤسسة كذلك) هو إيثاره الخالق على الخلق، فيخلص لعمله ويدع شهوات نفسه، ويبتعد عن نفاق رؤسائه ابتغاء مرضاة ربه، وهذا كله يصب في مصلحة العمل، لأنه يدفع الموظف إلى التركيز في عمله والسعي إلى إتقانه والنهوض به بغض النظر عن رضا المخلوق من عدمه. د. عبد المحسن الجار الله الخرافي [email protected]