ثَمَّة حكايات ملهمة في التراث العربي، يندر أن تحدث، ولا أبطالها يتكررون. وفي خضم مرحلة التراجع العربي يستلهم الناس ومضات خاطفة ومتوقدة في السديم الإنساني لتطوير ذواتهم، وشحذ أهدافهم الكبرى، ومراجعة غاياتهم النبيلة. وما يثير العجب في بعض هذه الحكايات هو أن أصحابها لم يبلغوا الحلم بعد، على ما فيها من كثافة الروح التي كانوا يحملونها بين جوانحهم. تقول القصة التي أوردها ابن الجوزي: إن وفداً من قبيلة السكون باليمن قدم على الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في عام الوفود، وحينما قضوا حوائجهم منه، ونهلوا من معين سنته المباركة، سألهم إن كان بقي منهم أحد، فقالوا: هناك فتى تركناه عند متاعنا وحلالنا، فطلب منهم إرساله إليه لقضاء حاجته، لكن هذا الفتى العجيب كان مبتغاه أكبر من أن يكون غرضاً زائلاً؛ إذ قال للرسول - عليه الصلاة والسلام - إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، فإنني والله ما خرجت من دياري إلا رغبة في أن تدعو الله لي بالمغفرة والرحمة، وأن يرزقني الغنى في قلبي، فأقبل عليه الرسول وقال له "اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه". ثم إن هذا الوفد قد عاد بعد عام إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فبادرهم بالسؤال عن هذا الفتى، فتحدثوا بكلام عجيب في وصف حاله، وكان مما قالوه: والله ما رأينا ولا حدّثنا بأقنع منه، ولو قُسمت أموال الدنيا لما التفت إليها أو سأل عنها، فأطلق عليه الصلاة والسلام حكمته الخالدة ودعوته المباركة "إني لأرجو أن يموت جميعاً"، وهو معنى عميق لم تستوعبه أذهانهم، حتى أن أحدهم قال متعجباً: وهل يموت الرجل يا رسول الله إلا جميعاً؟ فقال الرسول الكريم "تشعَّب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله -عز وجل- في أيّها هلك". نتجاوز أحياناً في وديان الدنيا ومساربها المعقول في توجهاتنا ورغائبنا؛ لذلك تأتي أهدافنا في الحياة متشعبة ومتناقضة، ولا تمثل سلسلة منطقية لغاية واحدة، كما أن الأساليب التي نتبعها في هذه المنهجية هي أساليب سطحية وتقليدية، مصدرها المشاهدة والمشافهة من الجماعة لا القراءة والاطلاع بانفراد، لهذا يقول ابن القيم "إلهي علمني كيف أحيا! أما كيف أموت فإني سوف أفهم ذلك لا محالة"، فلو قدّر لهذا الفتى أن يذهب برفقة قومه إلى الرسول الكريم لساق هديته المشروعة، وقفل راجعاً معهم، ولما أوتي هذه الروح المتفردة التي جمعت خير الدنيا في (غنى القلب) وفضل الآخرة ب(المغفرة والرحمة)، وغني عن القول أن من حدَّد مشروعه الأخروي مبكراً، ولم تفتنه مغريات (المادة)، سينظر إلى الحياة الأولى كوسيلة لاجتياز جسر الموت بنجاح حتى يبلغ ثمرة الحياة الأخرى بنفس مطمئنة، وأهداف (مجتمعة). في معترك الحياة وضغوطها أصبحنا نسير فيها كالآلة، التي تعمل وتعمل دون توقف أو كلل، مبرمجين بلا وعي أو تفكير، نستقي من مشارب عدة، ونصب أيضاً في أودية أكثر، دون أن تمر هذه البانوراما بمفرزة العقل والروح. ولأن القدوة (النموذج) غائب انقسم الناس في مذاهبهم، وانساقوا وراء المظهر دون الجوهر، فلا ترى إلا (أقراصاً بشرية منسوخة)؛ فما إن تتعرض لعوامل الطقس حتى تعطب بسرعة، ومن يشق طريقه منفرداً إلى الأعلى يتعرض لمئات المحن، أقلها نقد الناس له والتشغيب عليه، وعزله عن محيطهم.. وإنها لمعادلة صعبة أن تعيش وسط هذا المجتمع، لكن تظل (منفرداً) عنهم بروحك وفكرك وغايتك، ولنا في الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري الذي (يعيش وحيداً، ويموت وحيداً) مثال حيّ في العزلة والزهد؛ إذ قال لأحد أصحابه - حين شاهده يوماً في المسجد متعجباً من وحدته - سمعت رسول الله يقول: "الوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة، وإملاء الخير خير من السكوت، والسكوت خير من إملاء الشر".