لا يتردد أمير الكويت من وضع اصبعه على الجرح، أو الإشارة به إلى الخطأ بلا مواربة، إذ تحمل السياسات الكويتية العامة بصمته الدائمة. الكويت: ما أن لامست عجلات الطائرة الأميرية، التي كانت تقل رئيس الوزراء الكويتي (آنذاك) الشيخ صباح الأحمد الصباح، أرض مطار الكويت الدولي ظهر الخامس عشر من كانون الثاني (يناير) قاطعًا زيارته الخاصة إلى مدينة صلالة العمانية، التي قصدها في إجازة خاصة وقتذاك، وبعد ساعات قليلة جدًا من الإعلان الرسمي عن وفاة أمير دولة الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح، رنت الأنظار إلى القصر الأميري، ووفد إليه زعماء ومسؤولون عالميون لتقديم العزاء. أمير قبل المبايعة لوحظ أن صباح الأحمد عومل من قبل القادة الدوليين المعزين على أنه الأمير المقبل، علمًا أن الأمر لم يكن قد حسم بعد. فالنصوص الدستورية كانت تشير إلى تعيين ولي العهد وقتذاك الشيخ سعد العبدالله الصباح أميرًا، لكن حالته الصحية المتردية جدًا دفعت العائلة الحاكمة، ومجلس الوزراء الكويتي والبرلمان للإتفاق على مخرج دستوري يعفي الشيخ سعد من منصب الإمارة، والدفع بالشيخ صباح أميرًا للكويت، وهو ما حصل يوم التاسع والعشرين من شهر كانون الأول (ديسمبر)، حينما بايع البرلمان الكويتي الأمير الجديد، الذي أقسم بدوره اليمين الدستورية لمباشرة مهام منصبه. في داخل الكويت كما في خارجها، رأت التحليلات والإنطباعات أن إنتقال الشيخ صباح إلى مقدمة قمرة القيادة إمتداد لدوره الطبيعي داخل منظومة القيادة السياسية الكويتية منذ خمسة عقود، إذ أنه منذ العام 2000 تولى مسؤوليات إدارة تفاصيل الحكم اليومية، حينما اشتد مرض الأمير السابق وولي عهده. تضحية وإيثار يقول جاسم الخرافي، رئيس مجلس الأمة الكويتي السابق، إنه يعرف الأمير صباح منذ عقود، سواء خلال عمل الخرافي البرلماني كنائب في مجالس عدة ثم رئيسًا، أو الوزاري كوزير للمالية، وأنه من الصعب إختزال عطاء الشيخ صباح الأحمد في أسطر قليلة، فهو ربان السفينة، وأنه لم يعاصر قائدًا سياسيًا لديه مثل جَلَد وتضحية وإيثار الأمير. فقد أعطى للكويت الكثير خلال العقود الماضية، وتحمل مبكرًا عبء الحكم، وتفاصيله اليومية المرهقة. من جهته، يقول رئيس مجلس الأعيان الأردني السابق طاهر المصري ل"إيلاف" إن أمير الكويت شخصية سياسية حكيمة، زامله في العديد من النشاطات الدبلوماسية عربيًا ودوليًا حينما كان المصري وزيرًا لخارجية الأردن، إذ يشير المصري إلى أن بصمات الشيخ صباح السياسية والدبلوماسية حاضرة منذ خمسة عقود، أسهم فيها بوضع حلول للعديد من المشكلات الدولية طيلة العقود الماضية، ويلفت المصري إلى أن سلسلة القمم الدولية التي استضافتها العاصمة الكويتية أخيرًا هي دليل حيوية وعافية هذه القيادة السياسية الفريدة. التمسك بالديمقراطية يقول الوزير والسفير الكويتي السابق عبدالله العوضي ل"إيلاف": "يعرف أمير الكويت أن بلاده التي تتفرد داخل العقد الخليجي بديمقراطية مزعجة لكثيرين داخل وخارج الكويت، أن الأمراض الديمقراطية لا تقتل وطنًا، بل أن أنجح العقاقير لمجابهتها يكمن في إرتضاء قاعدة حل مشاكل الديمقراطية بالمزيد من الديمقراطية، وهي قاعدة جسّدها فعليًا أمير الكويت، إذ أبدى تمسكًا لافتًا بالخيار الديمقراطي رغم إسداء نصائح داخلية وخارجية له في السنوات الأخيرة بتعطيل موقت للديمقراطية. ويقول العوضي إن الأمير يصر على أن تظل راحة يده قابضة على جمر الديمقراطية، بل ويؤكد الأمير في مجالس خاصة أن عيوب بعض النهج الديمقراطي يتحمل مسؤوليتها بعض الشخصيات السياسية والبرلمانية في البلاد، إذ ليس في وارد الأمير أبدًا – كما يروي ل"إيلاف"– أن يقطع صلته بالديمقراطية أياً يكن كُفْر البعض بها، أو تضرر البعض منها، فهي المظلة والملجأ بعد الله لكل الكويتيين. مراقبة دائمة يقول مقربون من أمير الكويت، الذي ولد في العام 1929 ولا يزال عازبًا بعد وفاة زوجته الشيخة فتوح الصباح قبل أكثر من عقدين، أنه يُقاوِم النصائح المتشنجة والمتطرفة سياسيًا، وأنه من مدرسة البطء في إتخاذ القرار، إذ يريد أن يستجلي أبعاد أي مسألة تُعرض عليه، إذ لا يؤمن بعادة بعض الزعماء في الإكتفاء بالتقارير المنمقة، وأنه غالبًا ما يقوم برفع سماعة الهاتف من مكتبه الخاص في قصر السيف الأميري ليحادث مسؤولًا بغية سماع شرح إضافي عن أزمة أو مسألة أو دراسة عُرِضت عليه، لكنه في اللحظات الحاسمة يُقدم حله. وتقول الناشطة والمحللة السياسية الكويتية خلود الأربش ل"إيلاف" إن صباح الأحمد هو حلّال عُقد في أماكن عدة حول العالم بصمت وإيثار، وبالتأكيد يملك حلولاً لأزمات تستعصي على أهله وربعه، لكنه يطمع دائما أن تتولى المؤسسات الدستورية التي يحكم دستورياً من خلالها وضع الحلول والعلاجات بعيدًا عن تدخله الشخصي في كل شاردة وواردة. سمعة مرموقة يقول أحمد الصفدي، نائب رئيس مجلس النواب الأردني، ل"إيلاف" إن الكويت تلعب دورًا مهمًا في تعزيز العلاقات العربية، "وللكويت بصمتها السياسية الخاصة في المحافل الدولية، وهذا أمر لم يكن متاحًا لبلد صغير المساحة مثل الكويت لولا القيادة السياسية الرصينة، والفاعلة لأمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح الذي آثر أن يساند الأردن سياسيًا وإقتصاديًا منذ اللحظة الأولى لتوليه الحكم. ويشير الصفدي إلى أن الشيخ صباح الأحمد والملك عبدالله الثاني عاهل المملكة الأردنية الهاشمية دفعا العلاقات الأردنيةالكويتية إلى الأمام، ولن يسمحا لهذه العلاقة بالعودة إلى الوراء، متوقعًا أن العلاقة الأردنيةالكويتية ينتظرها مستقبل زاهر. ويدرك أمير الكويت المولود لحاكم الكويت السابق الشيخ أحمد الجابر الصباح من زوجته الشيخة منيرة السعيد العيار أن بلاده تراجعت على مستويات عدة، بعد أن كانت لها الريادة والسبق في سنوات سابقة، لكنه لا يرى هذا التأخر سببًا كافيًا للردة عن الديمقراطية، لكنه في الإجتماعات المغلقة من وزراء ونواب وجه إنتقادات لاذعة بلغت حد الإعتراف بأن حجم الفساد في بعض المؤسسات لا ترفعه الجِمال. على الشبهات بيد أن الأمير الكويتي يريد دائماً وفاقًا وتعاونًا برلمانيًا مع الحكومة لإنجاز العديد من المشاريع التي تتخم بها أدراج كبار المسؤولين الحكوميين منذ سنوات، وبدون أي أفق لتنفيذها على وقع التعثر البرلماني المتكرر، فمنذ عام 2006 لم يُكْمِل أي برلمان كويتي ولايته الدستورية كاملة، والمحددة بأربع سنوات. ونقل عن الأمير القول إن وجود شبهات فساد أو تنفيع في بعض المشاريع المهمة هو أمر لا يستدعي وقف كل المشاريع بحجة وجود فساد، فبعض المشاريع المهمة توقف قطارها مرة واحدة من المحطة الكويتية، ولم تستغل، فتلقفتها دول مجاورة، وحققت من خلالها نجاحات عظيمة. ومع إنتخاب برلمان كويتي جديد صيف العام الماضي، يتجدد الأمل بإنتهاء حالة الإستعصاء السياسي في البلاد. ويقول الناشط السياسي الكويتي عبدالله العنزي أنه رغم ضعف الأمل عند كثيرين، لكن الأمير صباح قادر على تسييل الحلول السياسية في المفاصل الصعبة. ويلفت إنتباه "إيلاف" إلى أن العام الماضي شهد تدخلًا أميريًا مباشرًا حينما كاد الوضع الأمني يخرج عن السيطرة. إقرار وظلم يقر الأمير في مجالسه الخاصة بأن العديد من الساسة الكويتيين الذين جاؤوا إلى ميدان العمل العام تعرضوا لظلم كبير، وبعضهم تعرض لإشانة مبرمجة للسمعة، في إطارات ومناخات من الحسد والحقد والنميمة من قبل أطراف سياسية أجادت لعب دور المواجهة عن الغير. ويؤكد الأمير للدائرة الضيقة حوله أن رئيس الوزراء السابق الشيخ ناصر المحمد الصباح يأتي في طليعة المسؤولين الذين تعرضوا للظلم والأذى، وأنه تمسك به حتى اللحظات الأخيرة، لكن الشيخ المحمد كان يصر بالمقابل على أن يُفسح المجال لغيره، إذ تكشف مستويات سياسية عاملة في القصر الأميري ل"إيلاف" أن اللقاء بين الأمير والشيخ المحمد الذي آثر خلاله الإستقالة وأصر عليها كخيار في وجه حملات التجريح السياسي التي طاله، قد شهد تأثرًا أميريًا بالغًا بموقف الشيخ المحمد الذي بدا متمسكًا بالنهج الديمقراطي والدستوري. ويقول الشيخ صباح الأحمد في مناسبات خاصة إنه لا يتصنع ابتسامته، لكنها سلاحه في كل الأزمات التي شهدتها إمارته أو جوارها المضطرب في العقود الماضية. يكشف الأمير أن الإبتسامة العفوية في وجه من تعرف ولا تعرف أفضل بكثير من إفتعال تجهم وغضب لا يقربانك من الناس، لكن هذه الإبتسامة غابت في لحظة حزينة وفارقة تخص موت بعض أفراد عائلته. فقبل زوجته الشيخة فتوح، توفي نجله الشيخ أحمد صغير السن في العام 1969 . إنسانية وحنان بعدها، توفيت إبنته الوحيدة الشيخة سلوى بمرض عضال لم يمهلها طويلًا، فأسمى دارته الخاصة بإسمها إستذكارًا لتفانيها في مراحل تشييد الدار المطلة على ساحل الخليج العربي. وخلال مرضها وإقامتها في أحد مشافي العاصمة البريطانية كان الشيخ صباح يتسلل من بين ثنايا إلتزاماته السياسية المرهقة داخليًا وخارجيًا إلى غرفتها الطبية في لندن للإطمئنان عليها. ظل صباح الأحمد على تماس مع وضعها الطبي إلى أن فاضت روحها في حزيران (يونيو ) 2002، وأمكن للمراقبين أن يشاهدوا صباح الأحمد في مراسم تقبل العزاء بإبنته سلوى باكيًا. يقول الشيخ صباح إن الفقيدة مارست حنانًا إستثنائيًا له ولأشقائها ناصر وحمد، ويعمل الأول وزيرًا لشؤون الديوان الأميري، فيما الثاني رجل أعمال ناجح، لكنه يبدي زهدًا لافتًا بالحضور السياسي والإعلامي. ايلاف