هي ذات السعادة التي أجدها في إبداع كبار الأدباء أجدها في إبداعات الشباب عندما أقرأ لهم وهم يتقدمون بخطى وئيدة وجلة باتجاه هذا العالم، أقصد عالم الأدب الذي تحف به المصاعب وتكتنفه الرعود والعواصف وتتشابك به الإرادات والعواطف وتبتليه الوقائع والتجارب فلا راحة به إلاّ بعد مشقة وسفر طويل ولا جائزة به إلاّ راحة الضمير ولا يسمن من جوع ولا يؤمل بالمال الوفير، وبالأخص في بلادنا العربية التي أصبحت فيها مهنة الأدب كالزراعة العربية تعاني شحة المياه وكساد المحصول وسوء التوزيع، برغم كل ذلك لم يترك الفلاح أرضه ولا الأديب حرفته وكلاهما ضروري للحياة . أفرح وأنا أقرأ للأدباء الشباب الواعدين، ليس فقط لأنهم يذكرونني ببداياتي ولكن لأني أؤمن بأن هؤلاء الشباب ممن تبزغ مواهبهم هم بأمس الحاجة إلى دعمنا وتشجيعنا بشرط أن يقترن ذلك بالتوجيه الرشيد والنقد البناء بمحبة تشبه إلى حد كبير محبة الوالدين . فاطمة عبد الله أديبة شابة تشق طريقها بثقة جبل وصبر جمل وخفة فراشة شخصيتها الذكية المرحة تلقى ظلالها في ما تكتب، وحين تتحدث عن نفسها أو عن أحد أعمالها تسخر من نفسها فتقول عندي مجموعة قصصية "بايخة" ولم أسمع منقبل أديباً وصف عمله بهذا الوصف لا من الكبار ولا من الشباب إلاّ فاطمة، لها طريقتها في استفزاز المتحدث وتغلب عليها المناكفة التي لابد وأن تنتهي بضحكة من القلب . قرأت لفاطمة عملين الأول "الدّخاب" وهو مجموعة قصصية تحتوي على 23 قصة قصيرة صادرة عن وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع "سلسلة إبداعات شابة" وحين تسأل فاطمة عن معنى "الدّخاب" تقول لك هو مزج لفظي بين كلمتي "الدّخان والضّباب" . أما العمل الثاني فهو روايتها الأنيقة "مخطوطات الخواجة أنطوان" بواقع 76 صفحة من القطع المتوسط، من إصدار دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة سلسلة "إشراقات" . بين العمل الأول لفاطمة والعمل الثاني بون شاسع لا أدري كيف استطاعت تجاوزه وبهذه السرعة . الفاصلة الزمنية بين العملين "أي المجموعة القصصية الأولى والرواية" ربما بضعة أشهر لأن العملين صدرا في عام ،2011 وقراءة أولية للعملين تعطي انطباعاً بأن الرواية بما فيها من حبكة محكمة وأسلوب مميز وخبرة وكأنها كتبت بعد عشر سنوات من كتابة المجموعة القصصية الأولى، مما يدل على أن فاطمة عبد الله قفزت قفزة نوعية تبشر بأنها في الأعمال المقبلة سوف تفاجئنا بما يجعلها في مصاف الروائيين الكبار . القراءة التالية للعملين ستبين ما أقول . مجمل القراءة للمجموعة القصصية "الدّخاب" تومئ بأن القاصّة تدرك ما بداخلها من موهبة وطاقة وإرادة في التعبير، حشد من الوقائع والأحلام والذكريات والتفاصيل اليومية الدالّة أوالعابرة تكتنزها مخيلتها الخصبة لكنها بذات الوقت تواجه شيئاً من دخان أو ضباب يشوش بعض ملامح الرؤية أمامها، بمعنى أن هناك الكثير مما تريد قوله إلاّ أن قراراتها في اختيار ما تريد قوله يكتنفها بعض الأحيان شيء من الدّخان أو الضّباب ذلك ما أفرزه عقلها الباطن من دون أن تشعر، فكان "الدّخاب" . ف"الدّخاب" ليس عنواناً مستلاّ من قصص المجموعة القصصية هذه، بل مفردة عابرة في قصة مجهول "الجندية"، الأمر الثاني هو أن هذه القصص جاءت في مستويات متعددة من حيث الإبداع والأسلوب ومن حيث البناء والسبك . من حيث الإبداع يتذبذب المستوى من ضعيف في قصص مثل "الذرة، وصنعة الأغبياء وروسيا العظيمة" إلى عال ومميز مثل "الإكسير والمثلث والآخرون" أو بين بين كمعظم القصص الأخرى . أما الإسلوب فقد تذبب من الواقعي مثل "بطل العجب وأسماء" أو سوريالي مثل "القصاص والذرة" أو بوهيمي مثل "الصحوة وسوء تقدير" وكأن القاصة أرادت أن تدخل الغرائبية في فنها القصصي فتكسر المألوف وتحدث هزة في المتعارف عليه لتكسر رتابة ما هو واقعي معاش أو خيالي مكرر، ولا أدري إلى أي مدى يمكن للأدب الغرائبي أن يستمر أو ينطفئ . "مخطوطات الخواجة أنطوان" هي بحق رواية تستحق القراءة، وهي بحبكتها وإسلوبها الشيِّق وتداعياتها التاريخية وتجلياتها الجمالية قد انتزعت الأديبة فاطمة عبد الله من عالم القصة و"دخابها" إلى عالم الرواية وإشراقاتها . الرواية فيها ست شخصيات مهمة وفاعلة البطل فيها هو "الخواجة أنطوان" الذي قدم إلى بيروت إبان الحرب الأهلية وأشترى قصراً بثلاث طبقات، لا أحد يسكن معه في هذا القصر الكبير سوى رجل أعزب عبر الخمسين من عمره يدعى "أبو فادي" فلسطيني الأصل يقوم بخدمة الخواجه الذي يواصل أبحاثه الفلكية بشكل سرّي ومنعزل عن العالم . يجيد أربع لغات "حياته أشبه ما تكون بشخص ينتظر في المحطة القطار ليقله إلى السماء وينام للأبد من دون إشراقة شمس تعكر ظلمة نومه . يشغل نفسه حتى يصل القطار بالقراءة ومراقبة السماء، ويقوم بذلك بواسطة تلسكوب "ميركوري" يحتفظ به في الأعلى في إحدى الغرف، وهي أشبه ما تكون بالمرصد، يرصد من خلاله مواقع النجوم ويسجل حركاتها لدراستها وتحليلها، مثل النجمة التي ولدت اليوم، درجة سطوعها تبشر بمولد رجل سيخلد في مجال العلوم، وبعدها يقول: ليس اليوم . . ليس اليوم" . مشيراً إلى ظهور شخصية تغير وجه العالم كما تعتقد بعض الفلسفات . يظهر في السياق الروائي وبشكل متوازن الدبلوماسي خالد مع زوجته حورية الهندية الأصل، الحدث المهم في الرواية هو أن الخواجة بعد خمس سنوات من عمله وبحثه في المخطوطات يتوفى على حين غفلة ولا جديد سوى أنه أوصى أن يدفن حسب الشريعة الإسلامية، بعد وفاته يكتشفون أنه هولندي الجنسية، ثم يتبين من خلال خطاب من السفارة الهولندية أنه ليس من رعاياها، والجواز الذي يحمله مزور، والحكومة ليس لديها بيانات له، ولا يوجد سجل في الحمض النووي الخاص به . تتوارد الألغاز حول هذه الشخصية وتتداخل الأحداث حين يعمد كل من خالد وحورية شراء المبنى الذي كان يملكه الخواجه بسبب انتقالهما من الهند إلى لبنان، وعندما يدخلان المنزل يكتشفان غرفة سرية فيها مخطوطة قديمة كان قد سرقها الخواجة من الفاتيكان، تتعقد الأحداث بوجود بعض القساوسة، وتظهر بعد ذلك شبكة من الأشخاص المجهولين الذين يعملون لصالح الفاتيكان حيث يعلمون بوفاة الخواجة بطريقة استخبارية فيداهمون البيت أكثر من مرة للاستحواذ على المخطوطة المسروقة، هنا تذكرنا فاطمة بقصص أجاثا كريستي البوليسية، وقد نجحت في تراتبية الأحداث وخلق التوتر والصعود إلى ذروة السر وكشفه بتراتبية وأسلوب شيق يدل على مهارة وذكاء . كما برعت فاطمة في تعبير العديد من الرسائل السياسية والاجتماعية المهمة بطريقة لافتة للنظر كالتفاتتها إلى معاناة الإنسان الفلسطيني من خلال حكايات أبي فادي، تلك الشخصية الأمينة المتواضعة والتي قاست من عذابات المذبحة في صبرا وشاتيلا عام 1982 وعذابات البحث عن الهوية والاغتراب . من يقرأ الرواية سيعرف من هو الخواجة أنطوان ولماذا غيّر اسمه وهرب بجواز سفر مزور، ثم سيبحث مع فاطمة عن المخطوطة حتى يجدها وستخبره فاطمة ما مكتوب فيها، ثم يكتشف أن كل ماورد في الرواية هو محض خيال جميل صاغته فاطمة برواية مشحونة بأحداث وشخوص واقعية تكاد أن تراها بعينك وتسمعها بأذنك، وذلك هو الإبداع الحقيقي والصدق في العمل الأدبي الساعي إلى مشارف الكمال . خيراً، أشدُّ على يدي الأديبة الموهوبة فاطمة عبدالله التي أنجزت رواية حقيقية بلا دخان أو ضباب ونتأمل منها عملاً جديداً يقفز بها عشر سنوات إبداعية أخرى ونحن بالانتظار .