كيف يمكننا قراءة صراعات نصف قرن في المنطقة منذ الثورة المصرية 1952م في ظل ووضع الحرب الباردة؟!!.. ربما المفارقة الغربية الغريبة والتي لم تحدث في منطقة أخرى هو تقاطع أثقال الغرب القديم الاستعمار مع الثقل والزعامة الجديدة وهي الولاياتالمتحدة "الاستعمال" في محطة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م والإنذار الأميركي الذي أجبر بريطانيا وفرنسا على الانسحاب!... البعض قد يتساءل: لماذا لم يأت إنذار سوفيتي والإجابة هو أن مثل ذلك لم يكن الأولوية للسوفيت آنذاك، والأهم أن المنطقة ظلت منطقة نفوذ غربي من وضع الاستعمار ومن ثم تموضع الاستعمال، ومن ثم فربط المد السوفيتي بالأيديولوجيا والخيار الماركسي صعّب مهمة نشر نفوذ السوفيت مقارنة بمرونات الغرب. الإنذار الأميركي لبريطانيا وفرنسا في عدوان 1986م كان لفرض الزعامة الجديدة للغرب ولإعادة توزيع المصالح وفق ذلك أكثر مما هو انتصار لحق، فإذا الغرب الاستعمار لم يكن آنذاك مع تثوير وثورات هي ضده فالغرب الزعامة الجديدة أو الاستعمال لم يكن موقفه في تلك المحطة لا مع حق ولا مع تثوير وثورات ولا هو ضد إسرائيل كطرف في العدوان. التثوير والثورات آنذاك باختلاف فكرها القومي من حالة مصر إلى البعث في العراق وسوريا إلى جبهة التحرير في الجزائر، ظلت أقرب للسوفيت والمد الأممي ومناوئة للغرب بأي قدر أكان الاستعمار أو الاستعمال!!. ولهذا فهذا المد القومي أو ثوراته ظل محتفظاً بقدر من القوة تتوفر له مما ظل من قوة موازية في المد الأممي، ولهذا فالمد القومي سار في فترته أو مرحلته الأولى في صراع مباشر مع ما أسماه "الرجعية"، واليمن كانت ساحة حتى محطة 1967م. باستثناء اليمن في فترة ما بعد ذلك حيث صار النظام في عدن إلى خيار الأممية مقابل اضطرار النظام في صنعاء إلى نقلة تحالف وتبعية للسعودية، وذلك كان أرضية الزحف لتوحيد اليمن شيوعيا بالقوة – باستثناء ذلك- فهي كانت فترة تعرية تلقائية متدرجة لصراعات الأنظمة مع بعضها والصراعات على الأنظمة حسب أوضاع صراع أو تموضع استقرار، فالقذافي من وضع الثراء أو الثروة في بلده يستطيع أن يطرح نفسه خليفة عبدالناصر ويمول حركات ثورية في العالم أو أحزاباً ناصرية كما في اليمن، بل يستطيع أن يكون صاحب النظرية العالمية الثالثة كما طرح وذلك يجسد صراعاً مع أنظمة أخرى. مثل ذلك لا يستطيعه جعفر نميري من وضع وواقع السودان بل بدأ تصاعد أو تصعيد الصراعات، وحين يصبح السادات في مصر "الرئيس المؤمن" فجعفر نميري في موازاة صفقة "الفلاشا" هو أمير المؤمنين. لو مصر قبلت الحوار مع إسرائيل قبل حرب أو انتصار 1973م لكانت إسرائيل تقبل بإعادة كل ما حصلت عليه مصر من خلال الحرب أو حررته وما قدمته من خلال التفاوض مقابل أول اتفاق سلام وقع، وإذاً فالنظام في مصر كان في حاجة لأن يتفاوض ويحاور ولكن ليس من وضع أو واقع هزيمة 1967م.. وحرب 1973م حققت النصر الاعتباري أو وفرت الانتصار المعنوي للسير فيما عرف ب"خيار السلام الاستراتيجي". لقد انتقلت المنطقة من وضع ما عرف اللا حرب واللا سلم إلى محطة حرب ثم سلم له يوفر سلاماً أو يرتكز على السلام، ولكن طاقات وقدرات واستجابات الحروب وجهت للحروب في أفغانستان أو الحرب مع إيران. الحرب مع إيران هي التي مكنت النظام في صنعاء من تحقيق استقلالية أعلى عن السعودية، ولعل تموضع صدام حسين رئيس نظام العراق كان بين العوامل المساعدة لتحقق الوحدة اليمنية غير التأثير التلقائي لانهيار السوفيت. مثل هذه العلاقة بين المتغيرات أو في استعمالها أو الإفادة منها يذكر ويستحضر حين محطة مثل غزو وتحرير الكويت، خاصة واليمن لها قضايا عالقة أو معلقة مع الجارة الأكبر السعودية وهي كأنما تعمدت "تطنيش" الثقل الذي جاء لليمن لنصرة الثورة وهي "مصر"، وبات طرفاً ثالثاً هو الذي يستشار أو يتشاور معه أو يوضع في الصور تجاه حوار وخطوات تحقيق الوحدة. بغض النظر عن حقائق ووقائع وتصعيد الصراع الداخلي فلولا كل ذلك ما صعد إلى حرب 1994م، ومشهد 1974م يجسد ذلك بين الأهم وليس المهم. الحروب في أفغانستان والحرب مع إيران كان وراء حدوثها أو إحداثها مدى ما وصل إليه السوفيت من ضعف، وبالتالي فالمنطقة كانت تصدر ثورة إلى أفغانستان لمواجهة خطر الإلحاد وكان عليها في ذات الوقت مواجهة خطر تصدير الثورة الإيرانية، وجاء من مواجهة هذا الخطر ضرورة المواجهة لخطر صدام حسين على المنطقة حتى غزو العراق 2003م. إذا مواجهة خطر الثورة الإيرانية جاء منه خطر صدام حسين على المنطقة فمواجهة خطر الإلحاد في أفغانستان جاء منه خطر الإرهاب ومحطة سبتمبر 2001م والحرب ضد الإرهاب، وكلها حروب في المنطقة أو حروب المنطقة. إننا لا ننكر أخطاء أو خطايا أي نظام، ولكن في سياق التفعيل للمعالجات من ربط بتفاعلات عالمية أو سياقات صراعات أكبر وأعلى تحرر الكويت بالتحالف الدولي وترفض محاولات جهود حلول سلمية، ثم تعالج أخطاء النظام العراقي بحصار ثم بغزو العراق فيما تعالج أخطاء الرئيس مبارك وآخرين بالثورات السلمية أو بمحطتها. في ذروة المد القومي فاستهداف ما عرف ب"الرجعية" مثل صراعاً ضد أنظمة أكثر مما حملته شعارات وحملات تتمحور حول الرجعية والإمبريالية. إذا مثل هذا بداهة بعد وصول كل الأنظمة بلا استثناء إلى علاقة تبعية أو اتباع بأي قدر لأميركا، فالأنظمة التي استهدفت في ذلك الوضع بالثورات باتت في هذه المحطات هي من يستهدف الأنظمة التي عرفت بالثورية ومن خلال الثورات السلمية. إذا الأنظمة التي نصص عليها مفهوم "الرجعية" مارست دور الدفاع عن وجودها وبقائها ولم تكن من يمارس المد أو الهجوم كصراع، فهي باتت في محطة الثورات من يمارس الهجوم وقطر رأس الحربة فيما الأنظمة الأخرى تمارس الدفاع. منذ الهزيمة القومية عام 1967م فالأنظمة سارت في تكييف صراعاتها مع التطورات أو استخدمت التطورات لصراعاتها، والتطورات والمتغيرات ظلت تستعمل الصراعات لصالحها ومصالحها بأي تكييف أو كيفية. ولهذا وبعد انتهاء الحرب الباردة وما ظل من تبعات وتوابع أو عالقات وتداعيات، فإن الصراعات- وباستثناء حالة إيران وحاجية تموضعه كصراع شيعي سني ربطاً بالصراع مع أميركا والغرب- بدأت تتصاعد كجديد بين المعارضات والأنظمة وليس بين أنظمة وأنظمة، ومحطة الثورات السلمية هي محطة التكثيف وليس التكييف لهذه الصراعات. السعودية كانت الطرف الأقوى الحاضر في حروب الجمهوريين والملكيين في اليمن لثماني سنوات ثم بعد ذلك، ولم يحدث أو يحس أي مد مذهبي إلا حين حروب المناطق الوسطى ثم حروب أفغانستان، فهل المسؤولية على الطرف الذي فرض هذه الحاجية "الزحف الشيوعي" أم الذي اضطر لهذه الحاجية "النظام في صنعاء"؟!. إذا هذا المد هو أعطى لمثل الحوثي ذلك التموضع في صعدة فهل الحوثي يقبل بإنهاء هذا الدور حين لا يحتاج إليه في ظل وجود مد ديني آخر مثله في فترة الخطر الأهم في تصدير ثورته وهو إيران؟!!.. وهل المد المذهبي الآخر الذي جاء في فترة حروب المناطق الوسطى وحروب أفغانستان يقبل بإنهاء دوره ومده؟!!.. إن أي طرف لا يمكن أن يقبل بأن ينهي أرضية مشروعيته وأرضية مصالحية بل أرضية حياته كطرف أو ثقل سياسي، والمثالية القيمية أو الوطنية أو الواقعية هي من خلال هذه الأرضية المكتسبة وليس على حسابها أو من خلال التخلي عنها، ولذلك فالصراع قائم وسيظل وبكل ما يستطاع تعزيزه كصراع من خلال الصراعات الداخلية أو الخارجية. إن كل هذا لا يمثل إنكاراً لأخطاء أو خطايا أنظمة من التي طالتها المحطة وثوراتها أو لم تصلها، ولكن الارتكاز على أخطاء أو حتى خطايا للسير في تطرف أشنع كتثوير وثورية هو دفع واقع أكثر من بلد حسب واقعها ووضعها وصراعاتها إلى مكارثية فوق أخطاء وخطايا كل أو أية أنظمة في التاريخ. لم يحدث حتى الآن من أي نظام – وربما لن يحدث- أن يقدم ما قدمه النظام في اليمن كحل سياسي ومن ثم توافقي وديمقراطي بالواقعية التي تناسب الواقع كأساس للحلحلة، فإن رفض قبول الحاكم بالتغيير فمن الخطأ الفادح رفض قبوله بالرحيل على أساس سلمي وكتداول سلمي للسلطة، خاصة وأنه لم تنتصر ثورة واحدة حتى الآن عبر ما يطرح الحسم الثوري، فالثورات إن كانت عاجزة عن الحسم والمسألة ليست بيدها كشعبية فيفترض ألا تكون أكثر عجزاً في الحلحلة كقدرة ورؤية وحكمة وحنكة. ما أتعاطاه عن أي طرف خارجي في هذا السياق هو من حق واستحقاق الفهم والاستيعاب وليس لتحميله مسؤولية أو للتبرير لطرف داخلي والتقليل من مسؤوليته. الأطراف الداخلية هي المسؤولية وهي التي تتحمل المسؤولية أكانت في الحكم أو في المعارضة وفي واقع الحياة السياسية أو العامة وصراعات اليمن هي الأكثر والأوفر مغامرة في أية محطة وفي كل المحطات، ولذلك كانت الأوفر والأوضح في اصطفاف الثورة ومن كل ألوان وأنواع الإرهاب والترهيب الرهيب.