رفعت وزارة الإعلام قبل مدة مشروع تطوير السياسة الإعلامية لمجلس الوزراء لإقراره والرفع به لمجلس النواب، لكنه لم يلق أي ترحيب كون التعديلات التي طرأت على السياسة قد شابها العديد من الثغرات والاختلالات التي لا تخدم سوى طرف واحد في المعادلة السياسية، فعاد المشروع من حيث أتى للمراجعة عن طريق لجنة برئاسة وزيري الإعلام والاتصالات، ولا ندري إن كانت وزارة الإعلام قد أشركت أو حتى استشارت نقابة الصحافيين وغيرها من الجهات القانونية والحقوقية عند إجراء تلك التعديلات منذ البداية، أم أنها قد طبخت بليل وأن العمل كان مرتجلاً من الأساس!، حتى أن مجلس النواب عندما وجد أن تلك التعديلات قد تأخر تقديمها من جهة الاختصاص نظرا لضيق فترة المرحلة الانتقالية تقدم بمشروع مماثل لحل الإشكال، ومع ذلك فلا شك أن تطوير السياسة الإعلامية الذي بات ضرورة ملحة لتخطي المرحلة الانتقالية، يتطلب اتخاذ العديد من الإجراءات المرتبطة بتفعيل الإعلام كي يحدث أثراً سريعاً وملموساً، ويستدعي من كل القوى الفاعلة الابتعاد عن المناكفات الإعلامية وتغليب المصلحة العليا للوطن فوق كل المصالح.. فالمرحلة الصعبة التي أفرزتها الأحداث منذ مطلع العام الماضي والتي كادت أن تؤدي إلى حرب أهلية لا قدر الله تستوجب من الجميع استشعار المسؤولية للخروج من المنزلق الخطير الذي يكاد يأكل الأخضر واليابس في البلاد. ولعل المؤتمر الوطني للحوار الشامل الذي دعا إليه فخامة رئيس الجمهورية الذي من المقرر أن ينعقد في نوفمبر القادم، ويجمع كل فرقاء العمل السياسي على طالة واحدة بما في ذلك المعارضة في الخارج، سيناقش كل المشاكل العالقة منذ قيام دولة الوحدة، بل وما قبلها لتصحيح المسار.. فالجميع ينشد المكاشفة والشفافية التي من شأنها معالجة الأوضاع بطريقة توافقية لا تخلو من تنازلات متبادلة من مختلف القوى، بما يفوت الفرصة أمام أعداء الوطن ويؤدي في النهاية إلى صياغة دستور جديد للبلاد تُجمع عليه كل القوى وتلتف حوله بما في ذلك شباب الساحات. فالفترة الانتقالية تتطلب مساحة أوسع من حرية الرأي، خاصة وأن الهامش الديمقراطي الذي أتاحته دولة الوحدة- في رأيي- ظل جامداً طوال الأعوام الماضية، ورغم افتتاح العديد من القنوات الفضائية الحكومية والإذاعات المحلية إلا أن المضامين ظلت جامدة كما هي منذ عام 90م، وسياط الرقيب (وزارة الإعلام) ظلت حاضرة طوال الوقت بل لقد تراجع هذا الهامش نتيجة التعديلات التي توالت على العديد من القوانين، وتلك حقيقة لا يمكن إنكارها، لذلك لا بد من إزالة كل العوائق التي تقف حجر عثرة أمام اتساع الهامش الديمقراطي الذي ينشده الجميع بما في ذلك العمل على توسيع مساحة التغطية الخبرية ليتناول كل الفعاليات اليومية والدورية التي تقيمها القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني بشكل متساوٍ وعادل عبر وسائل الإعلام الحكومية. أيضا من المهم تعديل بعض مواد قانون الصحافة والمطبوعات بما يضمن ممارسة النقد وفضح أوكار الفساد في أجهزة الدولة والمجتمع ككل دون خوف أو خشية التعرض للحبس والمساءلة، كما ينبغي إتاحة الفرصة للقطاع الخاص كي يستثمر في مجال الإعلام المسموع والمرئي لخلق جو من المنافسة للإعلام الرسمي، والأمر يتطلب إيجاد قانون يتيح لكافة القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني ورجال المال والأعمال حق امتلاك قنوات إذاعية وتلفزيونية مع وجود الضوابط التي تمنع خضوع مواد تلك القنوات للهيمنة الدينية والمذهبية. كذلك لا بد من إلغاء نيابة الصحافة وعدم تغريم الصحفي أو سجنه على ذمة قضايا نشر، كما ينبغي إيجاد ميثاق شرف صحفي يحترمه أرباب القلم لإنهاء حالة القدح والذم والتطاول والتعرض للخصوصيات الذي نراه اليوم في الصحافة الصفراء وما أكثرها، وعلى نقابة الصحفيين تولي هذه المهمة. ومن المعالجات المهمة للارتقاء بالصحافة الأهلية ضرورة الانتقال بالعمل الصحفي الفردي إلى العمل المؤسسي، حيث الإمكانيات المادية والمهنية وامتلاك المطابع التي تضمن الربح والاستقلالية والارتقاء بالوسيلة الصحفية إلى حيز المنافسة أقليمياً وعربياً، ولا مانع من دمج أكثر من صحيفة تنتهج رؤى مشابهة في كيان واحد. أما الأهم من ذلك فيستوجب إلغاء وزارة الإعلام وتشكيل مجلس أعلى للصحافة، لما لذلك من أهمية في إعطاء المؤسسات الإعلامية والصحافية الرسمية فرصة الاستقلالية بغية الارتقاء بالخطاب الإعلامي بعيدا عن الرقيب المتمثل في وزير الإعلام باعتباره رئيس مجلس الإدارة الذي ظل متحكما في المادة المرسلة من مختلف وسائل الإعلام الرسمية مهما كان نوعها (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، رياضية)!، مما أحبط الكثير من حملة الأقلام الناقدة ووقف حجر عثرة أمام أي إبداع. أيضا لا ننس أنه قد آن الأوان كي نعيد هيكلة المؤسسات الإعلامية ونعيد تأهيل بعض العاملين فيها في أقرب وقت ممكن، خصوصاً وقد غلب الكادر الإداري على الكادر الإعلامي من حيث الكم نتيجة المحسوبية والفساد الذي يستنزف المخصصات المالية المرصودة للمنتج الصحفي والإعلامي المرسل عبر مختلف الوسائط، مما أعاق تطور الإعلام ليواكب إعلام المنطقة من حيث جودة المادة المنتجة. والخلاصة أن تطوير سياسة إعلامية بطريقة متوازنة تضع المصلحة العليا للوطن فوق كل المصالح بات حاجة ملحة لمواكبة التطورات السياسية والمرحلة الانتقالية بما يخدم المبادرة الخليجية وبرنامج حكومة الوفاق الوطني، خصوصاً وقد جاء في البرنامج ما يدعو (لحرية الإعلام وتجسيد الشفافية والمساءلة والأخذ بمعايير الكفاءة وبناء منظومة النزاهة وتفعيل الدور الرقابي الشعبي على الأداء الحكومي ومكافحة الفساد).