تمايز الرؤية.. الهيمنة.. الواجهات الاجتماعية، أبرز العوامل التي أفرزت القضية التهامية - تعاني تهامة تمييزاً على عدة مستويات وتعرضت جغرافيتها للنهب والتدمير عقوداً طويلة - تم تغييب الرموز التهامية عن المنتج الثقافي للدولة مثل العملات النقدية وطوابع البريد والجداريات الكبرى في مباني مؤسسات الدولة - دأبت الصورة النمطية لدى النخب السياسية والعسكرية وشيوخ القبائل والنافذين على التعالي على أهل تهامة واعتبارهم مجموعة سكانية أخرى داخل الوطن - النخب المتسلطة عملت على نهب موارد تهامة في برها وبحرها.. والتمييز والعنف ضد مجتمع معين غالبا ما يثير رد فعل رافض ومناهض يتطلب الأمر ثلاثة أشياء لخلق اختلافٍ: وجود تمايز في رؤية الناس للحياة والعالم ومشكلاتهما، يتأسس في الثقافة والتقاليد والعادات والأعراف والحياة الروحية.. ووجود حالة من الهيمنة غير الطبيعية والتصرفات المتسلطة يَتّبِعُها مكون ضد آخر.. ثم حدوث مواجهات اجتماعية بسبب كل ذلك قد تلتبس بشعارات سياسية وصراعات اقتصادية واصطفافات مقولبة بقوالب مختلفة.. بالتأمل في الحالة التهامية.. نجد العامل الأول يتوفر من خلال اختلاف الذهنية المسالمة المنفتحة والقنوعة للتهاميين مقابل التكالب على الحروب وإنتاج العنف والضيق بالآخر عند المتسلطين.. ويتوفر العامل الثاني بشكل أكثر وضوحاً فيما حل بتهامة وناسها عبر عقود طويلة من نهب وسلب، وإقصاء وتهميش، وإذلال للإنسان، وتدمير لمكونات هويته.. ومن العاملين السابقين يتخلق العامل الثالث الذي لا يحتاج اليوم إلى دليل.. حيث تفجرت الأوضاع من رحم الاختلافات الثقافية، وهيمنة التسلط والتعالي الذي مورس على التهاميين وخصّب التربة لصراع تختلط فيه الأسباب الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.. في فجر تشكل الدول الحديثة وطموح البلدان المستعمرة إلى الاستقلال وتبازغ ظهور الدولة الوطنية في العالم الثالث ومنه العالم العربي، لم يكن أحدٌ يتصور- بناءً على الخطابات السياسية والثقافية والاجتماعية الموازية لتلك التحولات- أن ينتهي الحال إلى هذه المآلات التي نشهدها اليوم، فعند مطلع القرن العشرين نبذ (ماكس فيبر) المنظر الاجتماعي الشهير تطلعات الجغرافيات والجماعات المحلية على أساس أنها ظواهر بدائية مثلها مثل العرقية القومية الضيقة، تتضاءل أهميتها وتنمحي تدريجياً بفعل الحداثة والتصنيع وميل الإنسان في المجتمعات الحديثة إلى الفردانية.. كان فيبر يكتب ونصب عينيه في المقام الاول المجتمعات الغربية الحديثة.. وقد مضت الوقائع طيلة النصف الأول من القرن العشرين بما يصدق ما ذهب إليه فيبر، ولذلك تابعه أكثر علماء الاجتماع الذين كانوا يرون كيف تتوحد هويات كثيرة في كيانات كبرى مثل الإتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وكندا وغيرها!! بيد أن الرؤية قد تغيرت وبدأت القناعات تتزلزل مع انقضاء النصف الأول من ذلك القرن.. وعقداً بعد عقد تنامت حراكات الهويات المحلية داخل تلك الكيانات الكبرى وداخل عشرات الكيانات الأخرى في العالم، ولكن تنامي الهويات المحلية لم يكن- كما توهم كثيرون- يكمن في الأسباب اللغوية أو العرقية أو الثقافية أو الدينية أو المذهبية.. إلخ فحسب.. صحيح أن تلك الأسباب تلعب دوراً في تنامي حراكات الهويات المحلية، لكن بالقراءة الواعية المتأنية لما سبق سيتبين لنا أن القاسم المشترك بينها جميعاً هو الدوافع المتمثلة في الضيق بالطغيان والسيطرة والاستغلال والقهر والاستبداد والإقصاء والتهميش وانعدام التكافؤ في المناصب والوظائف والفرص والحقوق، وغيرها من الممارسات التي ظل دائماً يمارسها الفريق المتسلط بوصفه أكثرية أو بوصفه سلطة.. في تسعينات القرن العشرين بلغ التأكيد على سقوط نظرية فيبر قمته فقد كانت حروب الهويات قد بلغت ذروتها، سواء على شكل صراعات مسلحة كما حدث في بلدان البلقان وفي السودان وسيرلانكا وإندونيسيا والفلبين وأثيوبيا والكونغو والمغرب والعراق وتركيا ولبنان وراوندا، أو اتخذت مسار الصراع السياسي والاجتماعي كما في كندا، أو جمعت بين الشكلين كما في بلدان الإتحاد السوفيتي السابق.. وما إن أطل القرن الواحد والعشرون حتى باتت معظم الصراعات التي تشهدها بلدان العالم في نطاق ما تعارفت عليه المدنيات النموذجية ب(خطوط الصراع المعيبة) حد تعبير (هنتنغتون)، قد أصبحت تغطي مساحات هائلة من العالم تجعل (ماكس فيبر) لو كان موجوداً لفتح فمه ونزل على ركبتيه ذهولاً.. كان فيبر متفائلاً جداً بشأن ما يمكن أن تكتسبه الشعوب من الحداثة، ولكنه لم يكن متنبهاً أنه يتحدث من قلب مركزيته الأوربية بكل معطياتها الماثلة أمام عينيه إبان ذاك.. لم يكن ليخطر بباله أن خطاب الدولة الوطنية المتحررة من الاستعمار أو الثائرة على أنظمة قديمة في عشرات بلدان العالم الثالث، سيكون أكثر الخطابات صراخاً بحقوق المواطنة المتساوية، والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، واحترام حقوق الإنسان، وخصوصيات المكونات الجغرافية والبشرية المختلفة للدولة.. في نفس الوقت الذي تعطل فيه إلى حد السخرية كل حرف من حروف تلك الخطابات لتستبدلها بقوانين ومناهج غير مكتوبة تدشن بمقتضاها سلاسل من التصرفات والممارسات الخاطئة المتنافية تماماً مع أسس قيام الدولة.. تترتب عليها اختلالات مؤلمة، وتتراكم بسببها أوجاع تزمن وتتعفن حتى تصبح الأعضاء المصابة بها مشكلة لجسد الوطن كله على نحو ما تعيشه اليمن اليوم.. وهذا يعيدنا إلى بداية الموضوع.. إذ تقودنا التأملات في الحالة التهامية إلى التبصر أكثر في الأسباب التي تتخلق منها المشكلة.. تعاني تهامة تمييزاً على عدة مستويات..على المستوى الجغرافي تم استهداف الجغرافيا التهامية لعقود طويلة بالنهب والتدمير.. وعلى المستوى الثقافي والاجتماعي تم إقصاء ثقافتها ورموزها الثقافية المختلفة من الحضور الفاعل والمتكافئ مع حضور المناطق الأخرى في رموز الدولة كما في المنتج الثقافي الذي تتبناه الدولة.. من أمثلة ذلك: غياب الرموز التهامية عن عملات الدولة.. وطوابع البريد.. والجداريات الكبرى التي تتزين بها القصور الرئاسية، ومباني مؤسسات الدولة الرئيسة والمراكز الثقافية، والفنادق، وصالات المطارات.. كما استبعدت خصوصيتها الثقافية من محاور الدراسات والندوات والمؤتمرات، وهمش دورها الأكثر أهمية في تاريخ اليمن الثقافي والأدبي والحضاري خلال العصر الإسلامي خاصة، وتم تدمير حواضنها الثقافية ذات التراث الباذخ وعلى رأسها زبيد.. إلخ. وعلى المستوى السياسي تم إقصاؤها وإلغاء مشاركتها في صنع سياسة البلاد وأحداثها الكبرى وكأنها غير موجودة.. وقد ترتب على ذلك إفقار أهلها مادياً وإسقاط مكانتها معنوياً.. ذلك أن كل تلك المفاعيل كانت تتم مرتبطة ارتباطاً شرطياً بالصورة النمطية السلبية التي رسمت لها، وظل المتسلطون والنافذون يدأبون على تغذيتها وتفعيل تأثيراتها باستمرار.. دأبت الصورة النمطية لدى نخب السلطة من سياسيين وعسكر وشيوخ قبائل وكبار موظفين ونافذين على تبرير ممارسة أشكال مختلفة من العنف والتمييز والإقصاء والتهميش والنبذ، محصلتها دائماً وصول تلك النخب المتسلطة إلى الموارد في بر تلك الجغرافيا وبحرها والاستئثار بها.. كما دأبت كثيراً على تبرير التعالي على أهل تهامة واعتبارهم مجموعة سكانية أخرى داخل الوطن، فغالباً ما تم اعتبار أهل تهامة مختلفين اعتماداً على صورة نمطية ظالمة، ولا تحتاج الصور النمطية- كما يقول توماس أريكسن- لأن تشير إلى الحقيقة الاجتماعية، وهي لا تعطي بالضرورة تلميحات دقيقة لحياة الناس في الواقع.. وتماماً كما تذهب دراسات الصور النمطية فإن الصور النمطية بمقدار ما تكون باباً للتعالي على المستهدفين بها فإنها قد تكون سلاحاً ذا حدين، إذ أن استهداف مجتمع معين بها بشكل متكرر، غالباً ما يثير ردود فعل تتراكم لتتحول إلى وعي رافض ومناهض، فتكون الصور النمطية في هذا الحال من أهم عوامل فقد السيطرة على الآخر واستغلاله، لأن رفضه ومناهضته لها تتلازم شرطياً بمطالب تحررية حقوقية وسياسية وثقافية واقتصادية، يتم الحصول عليها أو انتزاعها على حساب المتسلط بتلك الصورة في الخطاب الرسمي باسم الوطن ووحدته ومصالحه العليا، وما إلى ذلك من دعاوى تخفي تحتها الدوافع الحقيقية للتسلط السياسي أو الثقافي أو الجغرافي.. إلخ.. وذلك ما يصدق على الحالة التهامية.. فبذلك النوع من الخطاب الكاذب برر دائماً الاستغلال والتمييز والإقصاء والتهميش الواقع عليها وعلى أهلها مع أن تحت السطح مبررات أخرى عبرت عنها الصور النمطية وإن بشكل جزئي وغير دقيق، وكانت فحواها دائماً النظر لتهامة بوصفها جغرافيا مجاورة.. إنها جزء من الوطن ولكنها الآخر فيه، كما أن أهلها كذلك هم جزء من سكان اليمن ولكنهم الآخر فيه.. قد يبدو هذا قاسياً جداً.. ولكن هل ثمة وجه آخر لقراءة الحالة التهامية وما يشتجر فيها اليوم؟!!..