التقطت سماعة الهاتف بعد إلحاح رنينه الطويل، وكأنّ إزعاجات الهاتف الثابت لم تكن كافية حتى اخترعوا المحمول ايضا ليقتحم خصوصياتنا دون استئذان أينما كنا، أفكر باستياء "أصبح الجوال كالموت.. يبلغكم ولو كنتم في بروج مشيدة".. أرد على مضض من قلب غيمة سأم وإرهاق تخنقني منذ أيام، لكن صوت صديق عزيز يأتيني ليبرئ ساحة الهاتف الجوال.. هذه المرة- على الأقل- يحمل إلي موجة فرح.. في الوقت المناسب.. استراحة محارب ومكافأة استحقها.. كيف لا وهو شاعر يتقن مهارة التعامل مع الكلمات واستخراج أقصى طاقاتها ليحولها شهباً توصل المعاني بذكاء واختصار، وترياقاً يداوي سحره أبعد الخلايا. تفاعلات كيميائية؟ ربما.. لقاء أرواح؟ جائز.. لكن الأكيد أن هناك من ينتهي حديثنا معهم بعد دقائق، بل وأحيانا قبل أن يبدأ.. وهناك من يسترسل حوارنا معهم حتى نتمناه ألاَّ ينتهي، وفيه تتوالد الأبعاد من أبعاد، يستنبط أرقى ما فينا ليفرشه بسلاسة بين الحروف، فيتحول الكلام رحلة تطير بنا من أفق إلى أفق وتغوص بنا من عمق إلى آخر حتى يغيب إحساسنا بالزمن. ولأنهم مواطنون مثلنا من كوكب يحظى سكانه بنعمة أو نقمة قرون استشعار فائقة الحساسية، فإنهم لا يرهقوننا بطلب تفسير أو شرح، بل يقرأوننا حتى من نبرات صوتنا.. لهذا أنهى مكالمته بقوله: " عمدي نفسك المتعبة بفيض من الموسيقى".. أقفل الخط.. ها أنذا أحط ثانية على الأرض، تأملت بأسى فوضى مكتبي وأوراقه المبعثرة التي تنتظرني.. الموسيقى؟.. سهل أن يتفلسف من هو ليس مجبرا على التعامل مع هذا كله، ولكن.. لم لا أجرب؟!. أقفلت باب الغرفة.. قلبت ساعة المكتب الصغيرة رأساً على عقب كي أنأى عن ملاحقة عقاربها لي، واتبعت النصيحة.. انسابت الموسيقى الهادئة تملأ فراغ الغرفة.. ثم أخذت تتسلل إلي.. وقبل أن يمر وقت طويل كانت صمامات الضغط قد فتحت داخلي، وبدأ قلقي وتوتري يتلاشيان رويداً رويداً مع الأنغام الرقيقة التي طغت على ضجيجي الداخلي وراحت تحل تشابك الأفكار المزدحمة داخل عقلي المرهق. أغرق داخل الكرسي.. أدفع ظهري للوراء.. ألقي بقدمي فوق المكتب.. نفس عميق.. أدعني استرحي.. وأتأمل في أسرار الموسيقى.. الكون الذي يوحد المخلوقات.. عجيب كيف تتخطى الزمان والمكان ليطال سحرها كل الكائنات.. تخاطب أرقى ما فيهم وتصل بينهم بلغة عالمية تترفع عن اختلاف اللغات.. وتستوعب كل المناسبات.. الأفراح والأحزان.. السلم والحرب.. صخب أماكن اللهو وخشوع دور العبادة، أما كان الفارابي بألحانه يضحك الناس ويبكيهم في لحظات تليها؟.. ومن منا لم ينم سعيدا على تهليلة رقيقة من أم حنون؟!.. ألا تستدرج نغمات المزمار الهندي الأفعى من وكرها.. وتراقص الدببة في السيراك؟!. منذ وقت مبكر استشعر أجدادنا الحكماء أهمية الموسيقى، وأدلى علماؤهم كالكندي والرازي بدلوهم في هذا المجال، وكتب ابن سيناء مقالته المشهورة "خير تمارين العافية الغناء"، ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يستخدم إخوان الصفا الموسيقى علاجاً في المارستانات لتخفيف الآلام وشفاء الأمراض، وأن يظل هذا جزءاً من العلاج في البيمارستانات الإسلامية حتى العهود المتأخرة. في العقد الفريد يقول ابن عبد ربه: "زعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق، فيصفو الدم ويرتاح له القلب، وتهش له النفس، وتهتز الجوارح وتخف الحركات"، و تصوروا أهمية فهمه العميق للتأثير الإيجابي للموسيقى، هو الذي لم يبتل مثلنا بالتلوث الصوتي الفظيع، إذ لم تكن الضوضاء سمة عصره كما هي سمة عصرنا، والتي يزداد اليقين كل يوم بمخاطرها الصحية وتأثيراتها السلبية على نفسياتنا وأبداننا، بل حتى على النباتات التي يتوقف نمو بعضها وربما تذبل حتى تموت بسبب الضجيج. أصوات تخدش السمع وأصوات تفتح مزلاج القلب "ليعشق قبل العين أحيانا".. أصوات تمرض وأصوات تشفي.. كيف؟!.. سأخبركم.. علمياً، تؤثر الذبذبات الموسيقية على الجهاز العصبي بما يشبه التخدير الطبي، إذ تحرض الجسم على إفراز الأندروفينات التي تشبه المورفين ومادة الميلاتونين التي تسبب حالة الاسترخاء وتخفض من هرمون الاكتئاب (كورتيزول)، كما تنشط المضادات الطبيعية التي تدعم الجهاز المناعي، وبما أن لكل عضو من أعضائنا موسيقى – لا نسمعها لأنها متناهية الصغر- تختل عند حدوث مرض أو تغير في المزاج، فإن ترددات الموسيقى تأتي- سبحان الله- لتعدل هذا الاختلال وتعيدها لحالتها السوية. وبحسب طب "الايوروفيدا" الهندي، هناك ثمانية مراكز موزعة على طول أجسامنا تتولى تنسيق تدفق الطاقة فيها تدعى كل منها "شاكرا"، ولكل منها ذبذبة معينة ذات علاقة بالسلم الموسيقي، تختل بالمرض والضغوط ويعيدها العلاج بالموسيقى إلى حالتها الترددية الطبيعية مولداً طاقة نظيفة ومفجراً الطاقات المكبوتة. لذلك- وإلى جانب العلاج بالطاقة أو الألوان أو الإبر الصينية – يأتي العلاج بالموسيقى كأحد أشكال الطب المكمل أو حتى البديل ولأنه علاج يسير رخيص، ليس له أية مضاعفات، يمارس في كل زمان وكل مكان، فقد أثار اهتمام الغرب منذ عام 1896م، وتمنح جامعة ميتشيغن في أميركا منذ عام 1944م درجة علمية في هذا المجال الذي تدرسه كعلم مستقل، يستخدم الموجات الصوتية لخفض ضغط الدم المرتفع، ومعالجة الربو والصداع النصفي والصرع والفصام والزهايمر واضطرابات التنفس والنوم والأرق، ولبعض إعاقات النمو والتعلّم وزيادة مهارات التواصل خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة، علاج أثبت فعاليته في رفع مستوى الذكاء والتركيز لدى الأطفال وتخفيف العنف لديهم ودعم قدرتهم على الاستقلالية والإبداع، سيما وأن الطفل منذ وجوده في رحم أمه يصغي إلى الموسيقى والإيقاع المنتظم لضربات قلبها، مما يؤثر في تكوين شخصيته وذوقه العام. والموسيقى كذلك وصفة أكيدة لتخفيف الآلام ومعالجة الاكتئاب بل وحتى في علاج السمنة!!، إذ يشعرنا الإيقاع بذاتنا ويدلنا على ما نحتاج إليه مما يحد من ظاهرة "الجوع العصبي" ويحدد العلاقة بين الجوع والشبع، وتصوروا أن سماع بضع ساعات من الموسيقى الكلاسيكية يوميا قد يسهم في إنقاص أوزاننا.. مما أمتعها من حمية!. إذاً ليست للترفيه فحسب بل للعلاج ايضا، وربما نرى الصيدليات قريبا تبيع- إلى جانب العقاقير والأدوية- تسجيلات موسيقية تساهم في علاج الأمراض وإعادة التوازن.. وحتى ذلك الحين سأداوي نفسي بنفسي.. "بفيض من الموسيقى" كما قال صديقي، أفكر وقد غمرني الرضى.. كان على حق.. هناك خواء لا يملؤه إلا رقي الموسيقى أو رقة الشعر أو غنى كتاب.. فلا عجب بعد ذلك أن يقول نيتشه: "لولا الموسيقى لكانت الحياة ضرباً من الخطأ"