في تقديري فالزحف لتوحيد اليمن شيوعياً كان أقل أهمية واهتماماً سوفيتياً وأميركياً مقارنة بالزحف الشيوعي لتوحيد فيتنام. فالسوفيت كانوا قد اكتفوا بأن يصبح لهم موطئ قدم في المياه الدافئة عبر النظام بعدن، وكان اهتمامهم أكثر على القرن الأفريقي ففشلوا في الصومال ونجحوا في أثيوبيا، وشرق آسيا هي منطقة توسيع الشيوعيات والتشدد شيوعيا وغربها منطقة مرونات. الولاياتالمتحدة من وضع الكوريتين بعد الحرب العالمية الثانية حتى تجربة فيتنام شديدة المرارة لها، وبعد إضعاف وانكسار المد القومي في الغرب الآسيوي، بدأت التسليم بتفوق السوفيت في قدرات وأدوات التثوير كإعلام موجه، فيما هي تنتقل من وضع دفاع إلى وضع هجوم في مواجهة المد الأممي. وإذا هي أوعزت لأندونيسيا بضم جزر تيمور الشرقية لها لأنها كادت تستقل من الاستعمار البرتغالي بحركة ثورية شيوعية، فهي بعد اغتيال "مصدقي" إيران تحتاج إلى تثوير بديل يملأ الفراغ في المنطقة، ويمثل مداً ثورياً لمواجهة الأممية من ناحية، كما يمثل بديل صراع أقل وزناً وضرراً من الحالة مع السوفيت. ولهذا توازت ثورة الأسلمة في إيران مع مواجهة الزحف للتوحيد شيوعياً باليمن، وذلك ما تحول ثورة على مستوى المنطقة، كانت تلاقياتها في حروب الجهاد ثم ما بعدها في أفغانستان تقاطعات تمثل الصراعات المذهبية القائمة أو المحتملة في إطار التطورات. إذا طرف داخلي بات المد الأممي حاجية لا بديل لها ليستمر كثورة ويستقر كنظام، فحاجية طرف آخر كنظام أشد لمد أسلمة أو أي مد لمواجهة زحف التوحيد شيوعياً، فبأي قدر كان كل طرف يعي تبعات وأبعاد مد إعانة أو استعان به؟ بانحسار المد القومي بات من الأسلمة مهما تقاطع أو تنوع هو الذي يملأ الفراغ في صعود وتصاعد، ولأن لأمة الإسلام فضاء أوسع فهو مد أسس ديمقراطية ولاية الفقيه في إيران، بل وفجأة وبما لم يتوقع أو المستحيل في تركيا أتاتورك بات لدينا الأنموذج التركي للديمقراطية ربطاً بالأسلمة. إذا زعيم ثورة الأسلمة والسلمية في إيران جاء ودعم من الغرب "الخميني"، وإذا اليمن كانت السباقة أو جرت بها تجربة مواجهة المد الشيوعي بالأسلمة، ففي البلد المسلم بشرق آسيا "اندونيسيا" جربت أو جرى تجريب الثورة السلمية، والثورة نجحت في إقصاء النظام ولكنها وبعد عقد ونصف أو أكثر أعادت اندونيسيا عقوداً إلى الوراء بمعيار ما كان النظام الذي اقصته أوصل الواقع إليه. حين أي مد من الشرق يقدم في الواقع كحزب أو طرف سياسي أممي أو قومي كما الناصرية والبعث وبالتالي فوصول الشيوعية إلى اليمن كنظام أو وجود أحزاب شيوعية في بلدان عربية، يجسد بوضوح مد طرف في الصراع العالمي واقعياً أو فكرياً. إذا هذا المد بدأ في الانكماش والتراجع منذ عقود تقترب من نصف قرن، فأين مد الغرب كأطراف سياسية أو فكر سياسي؟!!.. هل اكتفى الغرب بمد الأسلمة أم الديمقراطيات الناشئة مده؟!!.. ثم ما علاقة ذلك بالثورات السلمية وبمد الغرب؟!!.. بالإجمالية أو الفوقية لديمقراطية ولاية الفقيه والأنموذج التركي وسلمية الثورة في اندونيسيا التداخل بين ما يقدم الغرب للشرق وبين شرق يقدم الغرب وإيران تصارع الغرب والشرق، فيما تركيا تناضل للشرق أو في الشرق، والقضية الفلسطينية أو الثورات السلمية هي بين بوصلات المختلط التكتيكي والحقيقي للصراع أو للنضال. بالتفكيك إلى أو في كل واقع فالأسلمة كآخر مد لا زالت الطرف الأقوى سواء في تموضع إيران صراعيا كنظام أو في موضعة التطورات أو وضعها. الشيعة في الجنوب العراقي مسألة واقعية وإن زادت وضوحاً بعد إقصاء النظام العراقي، ولكنه لم يكن يعرف أو يتوقع بقاعدة أو زرقاوي لا قبل ولا بعد رحيل النظام حتى فرز أو بلورة الواقع العراقي إلى أكراد وشيعة، يجعل طرفاً ثالثاً لا مسمى له غير "السنة". الأطراف الإسلامية باتت بعد انكسار القومية واندثار الأممية هي الأقوى في الحركية أو الأفعال والتفعيل من حقيقة أن شعبية الأحزاب الحاكمة هي بين حالة وهالة، وهي بقدر ما تتسع قابلة للذوبان. الأسلمة كانت بديل تثوير للغرب لمواجهة الأممية كمد وملاحقته بمد إلى أفغانستان، والأسلمة تظل واقعياً بديل التثوير إن أرادت أو حين يراد، ولنا مد الأفق أو محورة التركيز حتى إلى حماس وحزب ومن الإنقاذ في السودان والجزائر. ولكن حين تصل الأسلمة كأطراف سياسية إلى النظام أو تحكم فهي الأسوأ كنظام وكنجاحات وكإنجازات بغض النظر عما تستمده الحالة الإيرانية من استنفار تموضعها صراعياً، أو الأنموذج التركي الذي ليست الأسلمة فيه أكثر من طلاء يلبي حاجيات أي أطراف في الشرق لصالح حاجية الغرب. ما تطرحه الثورات السلمية عن الأنظمة هو ذاته أو بمستواه ما كانت تطرحه الثورات التحررية تجاه الاستعمار القديم. إذا الاستعمار القديم يمثل نظاماً دولياً فهل وعي الثورات السلمية يبدؤ النظام الدولي والأطراف الدولية في صراعات الحرب الباردة وبعدها حتى الآن؟!!.. في مرحلة رحيل الاستعمار القديم اضطرت الأممالمتحدة للتعامل بما عرف "نظام الوصاية" وهو تعامل مع أوضاع بلدان لم تكن تستطيع توفير نظام أو توافق عليه بعد رحيل الاستعمار، فكيف يفهم ويفسر عجز الأممالمتحدة أو المجتمع الدولي لاحقاً في التعامل مع حالة كالصومال؟!!.. ولماذا لا يفترض حدوث حالة أو حالات من هذه في إطار ما تسمى "الثورات السلمية"؟!!.. حتى في ظل التسليم بأسوأ ما تطرحه الثورات السلمية عن الأنظمة، فذلك لا يلغي احتمال مشكلة مما تعامل معها المجتمع الدولي والأممالمتحدة أو لم يتعامل معها كما حالة الصومال. عامة المواطنين في اندونيسيا يقرون الآن بأن النظام الذي أقصي بثورة سلمية كان بكل أخطائه أفضل كثيراً مما ومن جاء بعده، والحصيلة تراجع إنجازات اندونيسيا، وانشدادها إلى مربع تخلف ومعاناة كانت قد تجاوزته، فمن يحاسب الشعب الأندونيسي والثورة باتت مجهولا وغير معلوم؟!!.. الثورات السلمية تقدم في الأساس تخندق الغرب في مد الأسلمة موازاة لتموضع الصراع مع إيران وربطاً بجديد ومستجدات وحاجيات وتكتيكات صراعات أكبر كما مع الصين. هذا التعاطي لا يرتبط بوضع لصراع كما اليمن في إطار ما تسمى "ثورات سلمية"، لكنه عندما يقول الرئيس الأميركي "أوباما" بأن الإسلاميين صمام الأمان في الشرق الأوسط، فذلك يعني إعادة الانتقال من "الديمقراطيات الناشئة" إلى إنعاش مد الأسلمة كأولوية، يتم توفيقها ديمقراطياً بأطلية كما الأنموذج التركي. لو أن الضغط الغربي للرحيل كثورات سلمية استعمل لتطوير الديمقراطيات الناشئة لحقق نجاحات أسرع وأكثر من الثورات السلمية واقعاً وزمناً. ما تحمله النظرية الماركسية من مفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة وغيرها كلنا نحترمه بل ونتمنى تحققه في أرض الواقع، وما تتبناه قطر أو تقدمه "الجزيرة" من ندوات وأطروحات فكرية كإسناد لخط الثورات يحترم ويتمنى الوصول للكثير منه. الأمر الواقع في ليبيا هو اقتتال بين نظام وثورة أو ثورة وثورة، والثوار في هذا الأمر الواقع لم يعد بمقدورهم التفكير خارج وضع وخط صاروا فيه. إذا طرف غربي سياسي أو فضائياته الموجهة ترى أن الثمن الذي يدفعه واقع ليبيا والمجتمع الليبي هو هين أو يهون كنضال أو لأهدافه النضالية، فإنني أخالف هؤلاء واختلف معهم بقوة من اصطفاف مع واقع ومجتمع. إذا أخطاء النظام في ليبيا مبرر لثورة فالثورة لا يفترض أن تكون خطيئة أفدح وأشنع من أي أخطاء للنظام في حق واقع وشعب ليبيا، خاصة في ظل حبكة الثورات شديد التطرف. إذا لم يسبق مثل حالة ليبيا استنفاذ سبل وبدائل فتلك الجريمة والإجرام في حق الشعب وحق الإنسانية إلى درجة التساؤل: ما إذا كان المراد التخلص من القذافي أم يراد هذا والمراد ما يحدث؟!!.. لا أستطيع تبرير موت مليون طفل في العراق كعقاب للنظام العراقي، ولا التسليم بتبرير قتل واسع ودمار شنيع في ليبيا، ولا أبرر ذلك تجاه الشعب الأميركي – افتراضاً- في ظل قانون التمييز العنصري وفي ظل تطور تجاوز بقرن حالة العالم الثالث الآن. أخطاء الأنظمة في وضع العالم الراهن والنظام العالمي الجديد، أو ما تمارسه أثقال الانتصار في الحرب الباردة، تتوفر بدائل وسبل للتعامل معها بما يخفف معاناة الشعوب ولا يزيد معاناتها وعذاباتها إلى مستوى مكارثي ولا إنساني ولا أخلاقي.. التنظير للثورات من فضائيات لا يستوعب هذا الأساس الواقعي والأخلاقي والإنساني لمراعاة الواقع والشعوب في بدائل وأساليب التعامل، مهما كان صوابه أو حقائقه يصبح مجرد تبرير فاقد القيمة الأخلاقية والإنسانية للتدمير والقتل كعالم وحشي ومتوحش، يدعي الإنسانية ويرفع شعار حقوق الإنسان، فيما هو يبحث عن أسباب لمثل هذا التفعيل بأغطية سياسية واهية لا تبرر إلا في إطار الأمر الواقع لقوتها وليس لعدلها أو إنسانيتها. النظام العراقي أقصي بغزو وخارج الشرعية الدولية ثم بات احتلالاً ثم أمراً واقعاً من خلال الشرعية الدولية أو العراقية. الثورات السلمية هي بديل إقصاء أنظمة وبديل تحريك وأرضية حركية كفوضى خلاقة، وبديل العودة للأسلمة أو إعادتها من خيار السلمية، وسيأخذ فترات كما بين تحرير الكويت وغزو العراق أو ثورة اندونيسيا السلمية حتى الثورات العربية السلمية.. ومن عاش خبر!.