بعيداً عما هو تقاطع واضح أو صارخ مع دين أو شريعة سماوية، فإنه لا يوجد تنظير ولا نظرية إلا وهي أو فيها مثالية "تدغدغ" مشاعر بشر، ويتمنونها كأحلام إلى مستوى الأوهام. ولذلك فلا أحد يجرؤ أن يقول إنه ضد "المدينة الفاضلة" كما تصورها إفلاطون، أو أنه لا يريد العدالة الاجتماعية والمساواة التي تبنتها النظرية الماركسية، ونفس الحال إزاء ما جاء في أطروحات الراحل القذافي في نظريته العالمية الثالثة "الكتاب الأخضر".... فبقدر ما يمتلك المرء الوعي بواقعه والمؤثرات على هذا الواقع كواقعية، فإنه لا يرفض المثالية في تنظير أو نظرية، ولكنه ليس مع سياق أو استمرار تجارب فاشلة وتجريب محكوم عليه مسبقاً بالفشل لمثالية الأحلام والأوهام، وبالتالي فهو مع المثالية الواقعية والممكنة في إطار واقعية كل واقع والمؤثرات الواقعية عليه في كل مرحلة محيطياً وعالمياً. بقدر ما حمل فكر أو تجربة عبدالناصر من مثالية واقعية يحس واقعياً بإمكانيتها كتحرير فلسطين أو شروع ومشروع للوحدة القومية؛ بقدر ما اكتسب شعبية عربية استثنائية حتى اليوم؛ رغم انهزامه عام 1967م وفشل مشروعه للوحدة القومية أو تحرير فلسطين، ومن حقيقة مستوى من عدم الواقعية إما في الاعتماد أكثر مما تحقق على طرف في الصراع العالمي "السوفيتي"، أو في تقدير تأثير ومؤثرات الغرب بالأشكال المباشرة وغير المباشرة. فشعبية عبدالناصر جاءت من مثاليته القومية التي كان الأكثر واقعية في التعاطي بها ومعها كتجربة قدمته وقدمها. في ظل غليان الشعب في واقع إيران ضد الشاه فإن "مصدق" رئيس الحكومة المنتخب أراد التعامل بمثالية الديمقراطية لاحتواء هذا الوضع، ونقل إيران إلى أفضلية بالمشروع الديمقراطي. الغرب اغتال المشروع الديمقراطي باغتيال "مصدق"، وبالتالي هو -بتلقائية- قدم بديل المثالية الإسلامية كمشروع من خلال الخميني والثورة الإسلامية السلمية. ومثلما الغرب واجه المثالية الماركسية في أفغانستان بالمثالية الإسلامية كجهاد، فهو ربما قبل ذلك كان شريكاً بأي قدر من المباشرة أو عدمها في مواجهة المثالية الماركسية في اليمن بالمثالية الإسلامية كتجربة للسير في المد إلى أفغانستان. فالغرب الذي دانت له المنطقة واستفرد بنفوذه فيها منذ آخر الحروب وأول اتفاق سلام مع إسرائيل في ظل تراجع وضعف السوفيت، لم يكن مع مثالية ديمقراطية في إيران كما حالة "مصدق" ولا في بلدان أقدم الحلفاء أو مستجدهم بعد محطة الحرب والسلام. وهو إثر غزو وتحرير الكويت دولياً كان يقرن طرح الشراكة الديمقراطية بالشراكة "الشرق أوسطية"، وبالتالي فالأولوية واقعياً ووقعاً هي للشراكة السياسية؛ كما تجلى في الحرب ضد الإرهاب ومحطة غزو العراق. الغرب بزعامة أميركا بدا بعد أحداث سبتمبر 2001م كأنما تخلى نهائيا عن مثالية الأسلمة، التي تعامل بها لمواجهة السوفيت في أفغانستان، وبدت الحرب ضد الإرهاب كأنما تطال الأطراف السياسية للأسلمة والنظام في إيران كأثقال للتطرف السني والشيعي حتى مجيء "أوباما"؛ الذي فاجأنا بخطاب إعادة بناء وتحسين العلاقات مع العالم الإسلامي، ومن ذلك الخطاب الشهير الذي وجهه من القاهرة. إذا خطاب إعادة بناء العلاقة مع العالم الإسلامي جاء ووجه للعالم الإسلامي من "القاهرة"، فعلاقة الأنظمة في العالم العربي والإسلامي وأولها النظام المصري في أفضل صورها، حيث تماهت هذه الأنظمة مع أميركا في الحرب ضد الإرهاب، بل إنه حتى الأنظمة المتطرفة في التقاطع مع أميركا كما ليبيا أذعنت أو اقتنعت بخط أميركا فوق المتوقع في مسائل كتعويضات "لوكربي"، أو تسليم أميركا ما لديها من مكونات أو مشروع برنامج نووي. فإعادة بناء العلاقات مع العالم الإسلامي لم يكن المقصود به الأنظمة، وقد وصلت إلى العضوية في الارتباط والمصيرية في الربط بالعلاقة بأميركا. إذا الحركات والتنظيمات الإسلامية هي من يستلم السلطة ديمقراطياً في تونس ومصر، وهي الغالبة وذات الغلبة من خلال تدخل "الناتو" في ليبيا، فذلك هو التجسيد لإعادة بناء هذه العلاقات من طرف أميركا والغرب، وذلك ما تجسده تصريحات "أوباما" التي تفكك خطاب القاهرة، مثل قوله "الإسلاميون هم صمام الأمان للمستقبل في الشرق الأوسط". أميركا في المنطقة واجهت تبعات مدها "المؤسلم" كثورة إيرانية في حروب مواجهة تصدير الثورة، ومن ثم واجهت في المنطقة تبعات مد الثورة وتثوير الأسلمة إلى أفغانستان كجهاد في عقد الحرب ضد الإرهاب. عندما تأتي محطة ما تسمى "الثورات السلمية" كامتداد لتطورات آخر الحروب واتفاقات السلام مع إسرائيل، فالإخوان في اليمن يؤصلون المحطة بحديث نبوي لم يعرف أو يشتهر قبلا عن العودة إلى خلافة إسلامية عربية تبدأ من اليمن، فيما فضائية "العالم" الإيرانية ترى هذه الثورات امتداداً لثورة إيران الإسلامية، ولذلك فقتال وحروب الإخوان والحوثيين في اليمن هو على أحقية كل طرف في الثورة، والوصول إلى السلطة كأسلمة وليس كسلمية ربطاً بالصراع بين أميركا وإيران. لأن اليمن حين مجيء الرئيس صالح كانت في حاجية للاستعانة بفكر وطرف الأسلمة لمواجهة زحف التوحيد شيوعياً بالقوة، فالنظام لم يسر بعد انتهاء ما عرفت ب"حروب المناطق الوسطى" لا في حالة الجزائروتونس ومصر كقمع وتصفية وسجن ونفي للإسلاميين أو "الإخوان"، كما لم يسر في خيار السودان بتسليمهم السلطة، وإنما سار في خطوات التجريب الديمقراطي والشراكة في السلطة، واستمرار التحالف وطول زمنه مع "الإخوان" مكنهم من التغلغل والتوغل في الحياة العامة والسياسية، وفي مفاصل تأثير النظام ومؤثراته حتى ما هي عالية أو شديدة الحساسية، بالمقابل فإن عقد عزل اليمن واستهدافها من الأثقال الإقليمية أو العربية مكَّن إيران من التغلغل والتوغل، وكأنما باتت بعد أحداث سبتمبر 2001م ثقل الدعم لطرف الأسلمة المتقاطع أو المضاد للمد الوهابي، الذي تسميه "السعودي".. وبغض النظر عن تباينات هذا الطرف مذهبياً معها ومد القدرة على تطويعه أو تذويبه في إطار ثنائية الصراع "شيعة- سنة"، حروب صعدة قدمت طرف الأسلمة السياسية المرتبط أو الذي لا بد أن يرتبط بإيران ووضع وتموضع الصراع معها عالميا وأقليميا، فيما محط "الثورات السلمية" بالنسبة للإخوان ليست غير محطة تسليمهم واستلامهم للسلطة طوعاً أو كرهاً، وقبل أو بعد الاتفاق والوفاق وحكومة الوفاق وبغض النظر عن أي تعامل أو مناورات وتخريجات تكتيكية. فالإخوان في اليمن يرون أنفسهم قوة دحر الشيوعية في المناطق الوسطى وثقل الجهاد في أفغانستان، وبالتالي هم أساس صمام الأمان للشرق الأوسط وفق "أوباما"، وهم مخزن ومخزون مواجهة إيران أقليميا، وبالتالي فالسلطة باتت حقا لهم كاستحقاق من المتراكم والقائم والقادم، وإذا من حاجة لديمقراطية وصناديق اقتراع فهي حاجية إجرائية وشكلية تنفذ بعد سيطرتهم على السلطة. ولذلك فالمشهد بعد توقيع اتفاق المبادرة الخليجية كأنما الإخوان والحوثية يتقاتلون على السلطة ومن يسيطر عليها، والوفاق وحكومة الاتفاق إنما لأداء دور انتقالي حتى يحسم طرف الوضع عسكرياً ويسيطر على السلطة. منطق الإخوان أن "القاعدة" كثقل وقوة في محافظات جنوبية وشرقية كحليف هي أقوى من الاشتراكي أو أي مسمى كالحراك واقعياً وشعبياً، وربما ترى تموضع الحوثي في صعدة هو أخطر أو أكثر صعوبة. والحوثية انتشرت وتمددت واقعياً وفكرياً خلال عام الأزمة فوق ما يتوقع أو يتصور في مناطق كثيرة ومتباعدة في اليمن. كأنما أي نظام قائم أو قادم إن لم يكن أحد طرفي الأسلمة المتصارعين فليس أمامه غير واقعية التقاربات مع طرف أو كل طرف بما يقتضيه وضع ومعادلة الصراع ربطاً بوضعه وتموضعه، والرهان على جر الطرفين إلى التركيز والارتكاز على العمل السياسي والديمقراطي بشيء من الحالة اللبنانية في وضع الشيعة والسنة، ولكن مع فارق واختلاف حالة وطبيعة النظام كطرف. حدة وعنف وعنفوان اعتمالات الصراع بين طرفين إسلاميين في واقع اليمن هو مرتبط بمد الأسلمة غربياً في ثورة إيران وتثوير أفغانستان، وهذا يسقط أية مثالية أو مثاليات للتنظير في هذه المحطة من قبل أي، لأن كلا الطرفين فقد الواقعية كما الأطراف الأخرى فاقدة جزءاً من واقعيتها بأي قدر، ولا يستطيع أي طرف أن يصبح واقعياً فيما يطرحه من مثاليات كتنظير إلا بعد استعادة كامل واقعيته أولاً. إذا فهم أميركا "أوباما" لإعادة بناء العلاقات مع "الإسلامي" هو بصبغة أسلمة لواقع تركيا أو أطراف الأسلمة السياسية كانتقال من ربط مشروعية أنظمة بالسلالية والأسرية والمذهبية إلى ربط هذه المشروعية بمختلط المذهبية والديمقراطية، فذلك يعني أن الصراعات ستفضي إلى واقعية التسليم المتبادل بالسلام المتبادل بين أقطاب صراع الأسلمة كسنة وشيعة في كل واقع، ويصبح الإخوان والحوثيون هما الثنائية كما الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أميركا. الإخوان ربما لا يعون بأن أميركا في الحرب ضد الإرهاب لم تجتث لا الطرف ولا الفكر المذهبي السني، وإنما تجفف أو تخفف الإرهاب، وهي كذلك- حتى لو حسم الصراع مع إيران بانهيار النظام افتراضا- لن تجتث فكرا أو تقتلع مذهبا، ومثلما كنا شركاء في وضع ولعبة الصراع القومي- الرجعي، وكذلك في صراع الحرب الباردة عالميا باضطرارنا أو اختيارنا وبوعي أو بدونه، فإننا شركاء في أوضاع وألعاب الصراع الجديدة، ولا يستطيع طرف الاستقلال عنها أو التحرر منها، ولكنه بقدر استقلالية وتحرر وعيه يستطيع تحقيق الأفضلية لذاته كطرف ولواقعه أو وطنية؛ ما لم تكن أولوية صراعاته ومصالحه متقدمة على أولوية انتمائه لواقع ووطن. في لبنان- مثلا- لا يوجد كمذاهب إسلامية فقط السنة والشيعة ولكن يوجد "الدروز"، ولهذا لا يمنع وجود مثل هذا ولكن في ظل ثنائية قطبية مذهبية تتصارع، وإذا لم يحتو الآخرون بالتماهي ولا الذوبان مذهبيا فبالتحالفات في إطار المواقف وردود الفعل تجاه الصراعات. استراتيجية أميركا فيما يخص الوسائط والبدائل والتكتيكات التي تظل منطقتنا تحت سقفها وعناوينها لا تفترض ولا تفرض حتميات، وإنما واقعية تدعمها وتعززها في واقع أو تدفع بها من واقع أو لواقع. فإذا الإسلاميون وصلوا إلى السلطة ديمقراطياً في تونس ومصر فذلك يثبت صحة التحليل الغربي الذي على أساسه صمم سيناريو "الثورات السلمية". ذلك لا يعني أن أميركا والغرب في تصميم على تحقيق أو تحقق ذات الحتمية في كل بلد وفي كل واقع آخر، وذلك في تقديري ما يخطئ فيه الإخوان في اليمن في التعامل على أساس حتميته. لا عقل يقبل أو يصدق بأن صدام حسين والنظام العراقي لم يكن يعرف أو يعي أن أميركا تتمنى أن يغزو الكويت بحساباتها، ولكنه مارس الغزو من ثقة بحساباته وليس من عدم وعي بحسابات أميركا. ولا أحد يصدق أن القذافي لم يكن يعرف أو يعي أنه مستهدف من أميركا والغرب، ولكنه واجه التصعيد المتسارع ضده بتصعيد أسرع وبحساباته مهما كانت مغامرة أو مقامرة، وليس من عدم وعي بحسابات أميركا والغرب. فإذا أميركا تثق بقدرتها على دفع طرف لغزو الكويت تحت أي ظرف أو حاكم لتصعيد العنف والحرب، فهي حتمية وقوع أو إيقاع أطراف في أخطاء أو خطايا لمد بالدخول أو بالتدخل، ولم يعد من مشكلة في أي بديل يجيء يملأ الفراغ أكان "الجلبي" المجلوب أو حتى حكومة شيعية، فقد تكون الأمر المرغوب أو المطلوب. اليمن كانت السباقة في فخ الواقع أو انفتاحه لتيارات وأطراف الصراعات القومية والأممية، ثم باتت السباقة في وضع وتموضع قطبي الأسلمة كصراعات. ولذلك فالشيعة الإيرانية المتطرفة باتت حاضرة ومسلم بها وجزءاً من واقع اليمن بما لم يحدث في البلدان التي كانت أكثر قلقاً وأرقاً مما سمي "تصدير الثورة الإيرانية". مدى تجسيد أطراف التوقيع على المبادرة الخليجية كاتفاق لواقعية التطبيق هو الذي ينجح الوفاق وحكومة الوفاق، ومدى الالتفاف في التطبيق سيعيد خلط الصراعات وأوراق الصراعات داخلياً وخارجياً؛ بما يتوقع وما لا يتوقع!.