الأربعاء الماضي هدد مجلس النواب حكومة الوفاق بحجب الثقة عنها إذا تكرر تخلف وزراء الدفاع والداخلية والمالية والنفط، عن الاستجابة بالحضور إلى مقر المجلس لتقديم إيضاحات بشأن عدم تنفيذ توصية شديدة اللهجة بمنع الطائرات الأمريكية بدون طيار في الأجواء اليمنية وإيقاف ضرباتها ضد أهداف يذهب ضحيتها مدنيون أبرياء، وكذا تقديم استراتيجية لمعالجة الشحة المزمنة للمشتقات النفطية. ما حدث اليوم التالي أن الوزراء تغيبوا وأن أكثر من مائة برلماني قدموا لرئاسة البرلمان عريضة تطلب استجواب الحكومة، بعد إجراء تعديل في ذات جلسة الخميس يلغي التهديد بسحب الثقة. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يطلق النواب تهديدات نارية دون أن يشعلوا عود ثقاب يخيف الحكومة.. ومن الواضح أنها لن تكون الأخيرة. مظاهر ضعف تبدو حكومة الوفاق أضعف الحكومات المتعاقبة على البلد خلال ربع قرن، ورغماً عن ذلك يظهر البرلمان حرصاً على أن يبقى دائماً الحلقة الأضعف في مواجهة السلطة التنفيذية بمؤسستيها الرئاسية والحكومية. ليس فقط ظاهرة تغيب الوزراء عن استدعاءات النواب تمثل أحد مظاهر الضعف، هناك كذلك "تطنيش" الحكومة لأغلب التوصيات البرلمانية في معظم الشؤون العامة وفي مختلف المجالات، ولعل التكرار السنوي للتوصيات الخاصة بموازنات الدولة وحساباتها الختامية أحد أهم الشواهد على الضعف البرلماني، فضلاً عن بكائيات النواب على رأس الأشهاد على أطلال توصياتهم. في المقابل، نادراً ما سجلت العشر السنوات الفائتة –عمر مجلس النواب القائم- اعتراضات عند التصويت على أجندات حكومية بعضها اتضح إضرارها بالبلد، رغم الأصوات المرتفعة والناقدة أثناء النقاشات، ومن أبرز الأمثلة على ذلك اتفاقيات بيع الغاز اليمني المسال التي مرت من أمام أعين النواب ومن بين أيديهم. كثيراً ما يلحظ المتابع لجلسات النواب حديث العديد منهم عن ضعف البرلمان وعجزه مضمنين عباراتهم بدعوات لتعليق الجلسات وأخرى لإغلاقه أو حلّه، إضافة لتقديم عدد منهم لاستقالاتهم –معظمهم تراجع- احتجاجاً على عجز مجلسهم في قضايا بعضها بسيطة، وغياب عدد آخر ممن كانوا مواظبين على حضور الجلسات فيما يشبه المقاطعة غير المعلنة. بل إن نواباً جعلوا من البرلمان موضوعاً للفكاهة والتندر، فهذا النائب خالد العنسي يصف المجلس ب"مؤسسة ضمان اجتماعي، يأخذ منها النواب مستحقاتهم المالية ويذهبون". اعترافات ضمنية بعدم جدوى السلطة التشريعية مقارنة بالتنفيذية تتجلى في تفضيل نواب تعيينات في مناصب تنفيذية بعضها يقل في درجته عن الدرجة الوزارية الممنوحة قانوناً لعضو البرلمان، وأنصع الأمثلة على ذلك تفضيل نائب رئيس مجلس النواب أكرم عطية لموقع محافظ الحديدة الأقل درجة من موقعه البرلماني. شرعية تتآكل في نفس اليوم الذي كان مقرراً لإجراء رابع انتخابات برلمانية منذ إعادة تحقيق الوحدة وولادة الجمهورية اليمنية، أقر مجلس النواب في السابع والعشرين من إبريل 2009 اتفاقاً سياسياً بين الأحزاب بتصويت معظم أعضائه من مختلف الكتل على تعديل دستوري على المادة (65) يقضي بإضافة فقرة (ب) إليها تنص على "استثناءً من أحكام الفقرة (أ) من المادة (65) تحدد فترة مجلس النواب الحالي بسنتين شمسيتين لمرة واحدة مراعاة للمصلحة الوطنية العليا". وبحسب هذا التعديل تأجل انتخاب برلمان جديد إلى السابع والعشرين من إبريل 2011، إلا أنه بسبب موجة الاحتجاجات الشبابية السياسية دخل البرلمان الحالي تحت طائلة الفقرة (أ) من المادة (65) ذاتها التي تتيح استمرار المجلس القائم في مباشرة سلطاته الدستورية حال تعذر إجراء الانتخابات في موعدها لظروف قاهرة، وذلك حتى زوال تلك الظروف. ومع الانفراج السياسي بتوقيع القوى السياسية المتصارعة، على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة في الثالث والعشرين من نوفمبر 2011 حصل البرلمان على سنتي تمديد جديدتين بإحالة المبادرة وآليتها العديد من مقتضياتها إلى مجلس النواب. سنة أخرى نالها المجلس ضمنياً لاستكمال مهام المبادرة المرتبطة به عشية إقرار مؤتمر الحوار الوطني تمديد الفترة الانتقالية لمدة سنة إضافية. بذلك يكون البرلمان الحالي حائزاً مشروعية قانونية لكن تآكلت مقابلها مشروعيته الشعبية، بداية بتجاوزه التفويض الشعبي لست سنوات ومنح نفسه تمديداً عبر تعديله الدستور، ومن ثم القفز على التعديل إلى المبادرة الخليجية وآليتها التي تستمد قوتها الأساسية من التبني الإقليمي والدولي لها، ومن بعض القوى الرئيسية التي وقعت عليها، لكنها بطبيعة الحال واجهت اعتراضات من قوى رئيسية أخرى بينها القوى الشبابية التي أدارت عجلة التغيير في 2011، إضافة إلى أنها لم تعرض على الاستفتاء الشعبي، وكانت أسلوب معالجة فوقية. وإدراكاً لهذه الحقيقة أحجم نواب منذ تعديل التمديد في 2009 عن حضور الجلسات البرلمانية بينهم الرئيس السابق لكتلة الإصلاح عبدالرحمن بافضل، ونائب رئيس كتلة المؤتمر ياسر العواضي. وأسباب عجز أخرى حرصت السلطة التنفيذية بشقيها الرئاسي والحكومي على إبقاء البرلمان تحت السيطرة عبر التسويات السياسية الحزبية خارجه، واحتواء الشخصيات البرلمانية المؤثرة، وتقديم تسهيلات تدعم قوة النواب ونفوذهم على مستوى ناخبيهم في الدوائر. كما أن الطبيعة السياسية لنظام الحكم الهجين من الرئاسي والبرلماني أسهمت لحد ما في إضعاف البرلمان مقابل السلطة التنفيذية، إذ أن متطلبات المشهد السياسي عقب الانتخابات البرلمانية تقضي بتشكيل الحكومة من الحزب –أو الائتلاف- الحاصل على أغلبية مقاعد البرلمان ما يجعل هذه الأغلبية محجمة عن اتخاذ قرارات قوية تجاه الحكومة، ويضع الأقلية المعارضة عاجزة عن تمرير تلك القرارات. وزاد من ضعف مجلس النواب الحالي أن المبادرة الخليجية وآليتها اعتمدت صيغة التوافق السياسي بدلاً من الأغلبية لاتخاذ القرارات في البرلمان، وأوكلت مهمة الحسم حال تعذر التوافق إلى رئيس الجمهورية/ رئيس السلطة التنفيذية. إلى ذلك ساعدت عوامل ذات طبيعة دستورية وقانونية في إضعاف البرلمان أمام السلطة التنفيذية. فبمقابل تعقيد الدستور لإجراءات اتهام النواب لرئيس الجمهورية بالخيانة العظمى أو بخرق الدستور أو بأي عمل يمس استقلال وسيادة البلاد، أتاح لرئيس الجمهورية حل البرلمان، أو الدعوة لانتخاب برلمان جديد، كما أخلى الدستور رئيس الجمهورية رغم كونه رأس السلطة التنفيذية من أي مسؤولية أمام البرلمان تلائم الصلاحيات الرئاسية الممنوحة له في الدستور. وحوّل النظام الانتخابي على أساس الفائز الأول والدائرة الفردية عضو البرلمان من مهامه الأساسية والقانونية في التشريع والرقابة إلى وكيل خدمات عامة وخاصة لأبناء دائرته الانتخابية يضطر بهدف تحقيقها إلى مداهنة الوزراء والمسؤولين الحكوميين والانصراف عن تفعيل دوره الرقابي المفترض. قبة زجاجية العوامل الضاغطة على البرلمان من خارجه لا تعفيه كمؤسسة وأفراد عن تحمله المسؤولية الأكبر في تآكل مشروعيته وبالتالي ضعفه في أداء مهامه، خاصة الرقابية، وممارسة صلاحياته الدستورية حيال الحكومة. المواطنون في الدوائر يعرفون بالاحتكاك المباشر مع نوابهم الأوضاع المالية قبل وبعد دخول البرلمان، ويلحظ الناس حالات الإثراء التي تصيب بعض النواب في فترة عضويتهم البرلمانية ما يعطي انطباعات سلبية لدى الرأي العام عن البرلمان مؤسسة وأفراداً، تعززت بالنسبة للبرلمان الحالي بسلوكيات مثل ذلك الإصرار قبل سنوات على تضمين تعديلات لائحتهم الداخلية نصوصاً –لم يتحفظ عليها إلا نواب لا يتجاوزون عدد أصابع اليد- تكفل سريان مستحقات مالية على أساس درجة وزير غير عامل بعد مغادرتهم البرلمان، خلافاً لزملائهم في كل البرلمانات السابقة، ومثلها حرصهم لدى نقاشاتهم لمشروع قانون المرتبات والأجور على بقاء مستحقاتهم في جهات أعمالهم السابقة وتلك التي يتسلمونها من البرلمان رافضين الاستغناء عن إحداهما. النواب ذاتهم أسهموا في خلق صورة في الذهنية العامة تضعهم في خانة المشتغلين على مصالحهم الخاصة أكثر من تحيزهم للمصلحة العامة بتفعيل دورهم الرقابي والتشريعي. إلى ذلك عمل نقص الشفافية في الأنشطة البرلمانية سيما في لجانه على إضعاف وضعية البرلمان كخصم نزيه في مواجهة مواطن الخلل الحكومي، على سبيل المثال لم يستعرض البرلمان الحالي حساباته الختامية منذ سبع سنوات أو يناقشها في جلساته العامة المعلنة. وفوق ما سبق، عادة ما تتناقل وسائل الإعلام تسرب النواب من الجلسات أو عدم اكتمال النصاب اللازم لصحة عقد الجلسات بما فيها جلسات ذات أهمية لجانب موضوعاتها المتصلة بالحياة المعيشية والأمنية للمواطنين. ومن 289 نائباً – 12 مقعداً شاغراً نتيجة الوفاة- يكاد الملتزمون بحضور الجلسات العامة واجتماعات اللجان لا يتجاوزون الخمسين نائباً، فيما عدد يزيد قليلاً على المئة متوسطو الحضور، ويتقسم الباقون بين نواب لا يحضرون إلا في جلسات التصويت على موازنات الدولة أو برنامج الحكومة، أو عند حضور رئيس الجمهورية، أو لدى إجراء انتخاب هيئة رئاسة البرلمان. في حين أن قرابة الأربعين نائباً لم يعتبوا قاعة البرلمان منذ سنوات وبعضهم من وقت أدائه القسم الدستوري على رعاية مصالح الوطن والشعب. وبذلك يكون النواب مسؤولين عن اعتقاد الناس بعدم تقدير بعضهم لمسؤوليته تجاه القضايا الوطنية والمعيشية والأمنية لليمنيين. تضاؤل المشروعية الشعبية ونقص الالتزامات والشفافية وقيود ذات طبيعة دستورية وقانونية عملت على إضعاف مجلس النواب في تأدية مهامه الرقابية قبالة الحكومة، ومنعته من استخدام كروت قوته الدستورية وممارسة صلاحياته، حيث توقف النواب عند ممارسة غير فاعلة لحق توجيه الأسئلة والاستجوابات للحكومة، ولم تسجل أكثر من عشر سنوات حالة واحدة لصلاحيات سحب الثقة من الحكومة أو حتى من وزير، مع أنها السلاح الأمضى لإجبار الحكومة على وضع توصيات النواب وقراراتهم واستدعاءاتهم في الحسبان. ودون ذلك لم يتبق للنواب إلى محاولات باهتة لإثبات الوجود والتشبث بشرعية متهالكة إلا من أمل المشاركة في إنجاز مهام آتية من وحي مبادرة الخليجيين.