في أحد أيام حكم الإخوان، استيقظت على خبر أسود، إزالة مكتبات شارع النبي دانيال بالإسكندرية، وهو سور يشبه سور الأزبكية في القاهرة لبيع الكتب المستعملة، وله في نفس كل مثقف مصري مكانة خاصة، ربما لأنه رحيم بالقراء، يبيع الكتاب الأفضل والأرخص، في بلاد يدفع مواطنوها ثمن قضاء حاجتهم في المراحيض العامة. كان وقع الخبر عليّ أليمًا، ولم أتعاطف مع أي مببرات يسوقها الإخوان لإزالة السور؛ التراخيص، عدم دفع الضرائب، لا شيء يغفر التعامل مع قيمة ثقافية وحضارية بهذا الشكل المهين، الصورة التي نشرتها أكثر من جريدة لواحدة من مكتبات السور محطمة تمامًا وقد تبعثرت محتوياتها من الكتب أمامها خلعت قلبي، كأنها كتبي، ما هذه الدولة الجاهلة، الفاشلة، الظلامية، العداونية، القروسطية، السافلة، القذرة؟ شاركت مجموعة من أصدقائنا من يسار الإسكندرية على الفيس بوك وصلة فش غلّ في الإخوان ومن عاونهم، ومن برر لهم، ومن وافق على فعلتهم الدنيئة، وصببنا لعنات الله على الشارب والبائع والحامل والجالس في مجلس الإخوان. بعد أيام ذهبت في مهمة عمل إلى الإسكندرية، وذهبت للنبي دانيال أمارس حق البكاء على الأطلال، كنت قادمًا من شارع صفية زغلول ودخلت من الناصية التي تقطع شارع النبي دانيال من منتصفه في غرة سور الكتب مباشرة، أي إنني لم آت من بداية الشارع حتى لا أرى المكتبات وقد تهشمت من بعيد وأظل أتعذب بمنظرها إلى أن أصل إليها، أغمضت عيني ونغزني الخوف وكنت كمن يزدري دواء بطعم السم، يا إلهي كيف فعلوها، فكرت في التراجع، لا أريد أن أرى هذا المنظر البائس، وفتحت عيني ... وإذا بسور النبي دانيال في أبهى صورة، لم يحدث له شيء، بائع الترمس العجوز يقف وقد بدا ذهبيًّا مثل حبوبه الطازجة، ويبتسم في ود، والبائع في المكتبة الأولى وقف يرش المياه لتطرية الجوّ وما إن رآني حتى رحب: - أستاذ محمد .. فينك؟ - فيني إيه.. أنتوا مش هدوا المكتبات على دماغكك؟ - مين قال كده؟ - مين قال.. مصر كلها بتقول! - لا يا عم محدش عملنا حاجة.. ده واد صايع كان عامل كشك سجاير من غير ترخيص على أول الشارع من ناحية محطة مصر، وطلبوا منه كذا مرة يرخص مفيش فايدة فشالوا الكشك، بعيد عننا خالص الكلام ده.. احنا محدش يقدر ييجي جنبنا.. عندي حاجات جديدة اتفضل! يا الله، كل هذا الكذب، ساقه لنا أصدقاء سكندريون، وتابعته جرائد، ومجلات، وكتب عنه المثقفون أشعارًا، وأزجالًا، ومقالات، وبكائيات، وشاركت بنفسي في وصلة شتيمة، وفي النهاية كشك سجاير غير مرخص؟! كيف كذبوا، كيف صدقناهم، كيف رددنا كالببغاوات دون أن نتوثق، كيف شاركهم الكذب زملائنا، لماذا رضوا أن يشوهوا خصومهم السياسيين بهذه الطريقة الرخيصة وورطونا معهم، ما الفرق بين اليساري الذي يكذب ليشوه الإخواني، وبين الإخواني الذي يفعل الشيء نفسه؟ أسئلة كثيرة بلا جواب. خرجت من النبي دانيال مغتمًّا أكثر مما جئت، رغم كون المكتبات بخير، تذكرت وأنا أغادر الإسكندرية، أن المكتبات بخير، ففرحت قليلًا. المكتبات بخير، لم يتعرض لها أحد، القراء هم من يستحقون الإزالة. أحاول الآن تعريف الفاشية حين تتدثر بتراث التنويريين وتجربة عصر النهضة في أوروبا وتعرض نفسها عليك عبر فاترينات الحداثة وما بعدها، فلا أجد سوى المثقف المصري. في التقرير الذي نشرته الزميلة كرمة أيمن على بوابة مصر العربية أمس الأحد 10/8/2014 تقول الشاعرة فاطمة ناعوت: إنها مع حرق الكتب التي تروج لفكر الإخوان لحماية الأجيال القادمة، وأنه لا مجال لوجود الكتب التي تروج للفكر الإرهابي، ومن المفترض ألا يصبح لها وجود على الساحة الثقافية، وأنه يجب التخلص من تلك الكتب، وأن الحرق هو الحل الأمثل للتخلص نهائيًّا من ذلك الفكر لأن المصادرة، قد تزيد من أهمية الكتب وتدفع الناس لقراءتها. وأخيرًا، طالبت ناعوت بملاحقة ومتابعة من يقومون بإصدار هذه الكتب وترويجها ومساءلتهم: لماذا يتبنون ذلك الفكر؟ أي إنه لا ينبغي علينا فقط أن نحرق الكتب، ولكن علينا ملاحقة الكاتب والناشر والبائع والتحقيق معهم بشأن ما يعتقدون من أفكار وإثنائهم عنها والكلام لشاعرة مصرية تمثل بلادها في مهرجانات الشعر في العالم كله. المثقف المصري الذي اشتعل غضبًا من أجل إغلاق المكتبات وإزالتها، الأمر الذي لم يحدث أصلًا، هو نفسه هذا المثقف الذي مرّ عليه خبر إحراق كتب الإخوان، والتجربة التركية، في مكتبة مصر العامة بالغردقة فاستقبله بالترحاب والتأييد وطالب الدولة بملاحقة كتابها وناشريها وبائعيها. مصر العربية نشرت في اليوم نفسه تقريرًا للزميل عربي السيد يحمل آراء بعض الفنانين ومنهم المخرجة إيناس الدغيدي التي كانت سببًا في تشويه مفهوم الحرية عند بسطاء المصريين وربطه بالحرية الجنسية وترخيص أوكار البغاء، التي طالبت غير مرة بضرورة منحها ترخيصًا قانونيًّا لممارسة الدعارة، قالت فيه المخرجة المحترمة إنها توافق على حرق كتب الإخوان، وترى في إحراق 36 كتابًا عن الإخوان وتركيا وتجربتها الاقتصادية أمرًا طبيعيًّا –على حد تعبيرها-. المثقف/ة المصري الذي هاله أن يضع حزب سلفيّ في دعايته صورة زهرة حمراء مكان صورة المرشحة لأنها امرأة منتقبة لا يجوز كشف وجهها أو تصويرها أمام الأجانب –وفق معتقدات السلفيين–، هو نفسه المثقف الذي صرح بأن الحكم بسجن فتيات في الثانوية العامة بتهمة حمل بالونات عليها إشارة رابعة بالسجن المؤبد حكم عادل وهم يستحقون –بحسبه– الإعدام، أتحدث عن عبد المعطي حجازي بالمناسبة. صورة الوردة التي أشقت الكثيرات من الكاتبات النسويات المثقفات المصريات لم تلفت انتباههن حين تحولت إلى فيديو سحل طالبة في حرم جامعة الأزهر لأنها تشير بعلامة سياسية، لم تهتز النسوية المصرية أمام تكالب أكثر من خمسة جنود بالهراوات على فتاة جامعية أوسعوها ضربًا وركلًا، لم يتحرك الضمير النسوي إزاء حالات اغتصاب تم توثيقها حقوقيًّا جرت في أقسام الشرطة لناشطات لا يتجاوزن ال 18 عامًا، ولم يجدن في هذا أيّ تجاوز في حق المرأة وقدسية جسدها، وسلامته، كانت صورة الوردة في دعاية الإسلاميين أشدّ وقعًا على الضمير النسوي المثقف التنويري في بلادنا.. أم الدنيا. المثقف/ة المصري الذي فتح حوارًا واسعًا حول مفهوم الوطن لدى الجماعات الإسلامية لمجرد أن أحدهم فبرك خبرًا حول التنازل عن حلايب وشلاتين للسودان، وتأجير آثار مصر وقناة السويس لقطر، هو نفسه المثقف الذي لفه صمت القبور حين قرأ وسمع وشاهد على الشاشات أن الحكومة المصرية تدرس "بيع" الجنسية المصرية، والمتاجرة بها. المثقف المصري الذي سمع مرشح رئاسة الجمهورية حينها عبد الفتاح السيسي وهو يقول إنّه في حالة نجاحه سيكون مسؤولًا بشكل مباشر عن "الدّين" نفسه، وحين راجعه المذيع: تقصد المؤسسات الدينية، قال: بل الدين، الدين ذاته! مرّ ذلك على المثقف العلماني المستنير المحترم، ولم يسترعِ انتباهه وهو الذي باع عمره ثمنًا لتفهيم الناس أن الدولة لا دين لها، وأن الدين علاقة بين المرء وربه، وأن الدولة لا تصنع تدينًا... إلخ. المثقف المصري الذي استدعى تراث القومية العربية كله في الدفاع عن القضية الفلسطينية حين تحدث الرئيس السابق مع شيمون بيريز بقوله: "عزيزي"، فيما لم تقلقه رسائل الشكر لكل من نتنياهو وبيريز على تهنئتهما "الدافئة" بتعبير السيسي، ولم يزعجه بيان وزارة الخارجية المصرية الذي يساوي بين أطراف المعركة على أراضينا المحتلة في فلسطين، ولم يجد غضاضة في أن يردد وراء إعلام العسكر: بلا غزة بلا زفت. الأمثلةُ تطولُ، خاصّة حين نفتح ملف الحريات ونتعرض لإغلاق الجرائد والقنوات وإيقاف البرامج وفضائح التبرير للفاشية العسكرية والاستهزاء بحقوق الإنسان، كلّ هذا مرّ على المثقف المصري مرور الكرام، ولم يرَ فيه صلب قضيته في الحياة. وكعادتنا، المصريون يفتحون بابًا جديدًا أمام العلوم الإنسانية، للتعرف إلى نوع فريد من المثقفين: "مثقفو محاكم التفتيش".. التنويرية.