إن كلَّ من يقرأ التاريخ البشري يجد أقطابًا، تدور عليها رحى الحياة، حتى نصل لذات الإنسان، فنجد عددًا من المُشكِلات التي تتحكم في توجهاته وتقريره لكثيرٍ من أموره أو آرائه، فهناك النشأة، وهناك التعليم، وهناك البيئة، وهناك الأشخاص الذين تربى على أيديهم فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا، كل هذه الأنماط المختلفة تعمل مع بعضها البعض في توجيه دفّة هذا الإنسان في هذه الحياةِ، حتى إنها أحيانًا قد تدخل في شكل صراع يسفر في النهاية على غلبة نمط وسلوك معين، بل إن هذه الأنماط المتشابكة قد توجد في نموذج المتدين الواحد صاحب الفكر الواحد، فتداخل الأفكار وانكشافها للآخر حتمية لا مقر منها. هذه الحتمية في طبيعة الإنسان الذي هو المكون الأساسي للمجتمعات، جعل هذا الأمر صبغة اجتماعية، انتهى لما قد يدعوه البعض بصراع الحضارات ممثلًا قمةً لتجاذب الأفكار وتناوبها في أخذ المقدمة وتولي الدفة أو توجيه القافلة. التديُّن السياسي قديمًا، وخاصةً فيما قبل النهضة الصناعية الحديثة أو قريبًا منها، كان الفكر الذي غالبًا ما يتسم بكونه دينيًّا هو من يأخذ زمام المبادرة، فلا يخفى على أحد الحروب الصليبية في التاريخ الإسلامي المسيحي وليس ببعيد منه الفتوحات الإسلامية وما قبلها كحروب الردة في عهد الخليفة الراشد أبي بكر إلى ما قبل ذلك في حروب الأنبياء كلها التي كانت من منطلقات فكرية دينية. حيث نجد في كل ذلك أن الفكر الديني هو من يحدد الأسلوب السياسي؛ ولكن بعد الثورة الصناعية التي ارتبطت بأفكار أخرى تنويرية وغير تنويرية وما صاحبها من انقلابات في المجتمعات الغربية، ظهر ما قد نسميه (بالأديان السياسية) أو (الأوثان الجديدة) كما يحلو لبعض المفكرين الغربيين أن يسميها ويعنون بذلك تقديس لكيان سياسي معين هو نظام الدولة باعتباره ممثلًا لإرادة الجمهور، حيث يقوم هذا التقديس على اعتناق أنساق متكاملة من الرموز والمعتقدات والطقوس التي تفسر الوجود الإنساني داخل إطار الدولة كما يحدده الدين المنزل، فإذا كان هناك المؤمن والكافر في الدين المنزل، فهناك الإنسان الصالح والطالح في الدين السياسي الجديد والذي قد يتسع أحيانًا إلى خارج نطاق الدولة المحصورة جغرافيًّا إلى ما نسمعه ويتردد من تقسيم العالم إلى فئتين فئة الشر وفئة الخير تحت مظلة القطب الأوحد. إن هذا المفهوم الذي تردد في كتابات مفكرين غرب كثر نشأ من اعتقاد أن الدين وحده الذي يستطيع أن يورث القوانين المنبثقة من إرادة الشعب الصفة الإلزامية ولما كانت انحتامية الانفصال بين الكنيسة والدولة قرارًا لا رجعة فيه، لم يبق إلا أن يوضع دين جديد. وقد ارتأى المفكر الفرنسي (روسو) أن يتضمن هذا الدين على أربعة أشياء أساسية، هي: (الاعتقاد بوجود الإله) و(الاعتقاد بالمعاد) و(الجزاء على الخير والشر) و(اتقاء التعصب الديني)، وهكذا أصبح (الإعلان عن حقوق الإنسان) والدستور والوطن والنظام أمورًا لها قداستها ورموزها وطقوسها ولها نصبها وشهداؤها. وأصبح الخروج عن نسقها جريمة قد تصل إلى الإعدام بتهمة الخيانة الوطنية. إشكالية الحكومات الدينية العربية إن كثيرًا من الإشكالات التي تشهدها المنطقة العربية ومنها الحكومات الدينية التي تدور في مجملها في فلك السياسة الغربية، مردّها لوجود فكر ديني مقدس لا على أنه السبب، بل لعدم ملاءمة الأنظمة القائمة مع هذا الفكر ومتطلباته، لذلك فإن الهاجس الديني لدى الحاكم العربي قد يكون مقلقًا أحيانًا كثيرة لدرجة تدعوه إلى إيجاد اجتهادات من داخل المنظومة الدينية تبرر ما يقوم به من أعمال قد تكون في نظر طائفة كبيرة أعمالًا مخالفة للأصول المعروفة في الدين، بل إن هذا الهاجس يصل في كثير من الأوقات إلى من يسمون بالتنويريين الذين يعتقد أكثرهم بأن هذا الفكر الدين الذي يمثل إرادة الله التي هي في الواقع ضد إرادة الإنسان الحديث مرحلة غابرة انقضى زمانها ولكنهم لا يستطيعون التصريح بهذا الرأي مراعاةً للرأي العام الذي هو ديني في غالبيته، فيتقوون بتفسيرات دينية من داخل المنظومة الدينية القائمة، وإن كانت أحيانًا خاطئة أو غير صحيحة وفي كثير منها لَيّ لأعناق النصوص. وتأتي مسألة قابلية الفكر للتغير أو التبديل حتى تناسب سياسة المصالح المتجددة التي تتسم بها السياسات في العالم المعاصر وهي فيما عدا الفكر الديني لا توجد إشكالية كبيرة ولا حساسية بالغة في تطويع تلك الأفكار لمقتضى المصالح، ولكن المسألة حرجة جدًا ومفصلية في الحكومات الدينية؛ فمثلًا، ارتبطت بعض الحكومات الدينية العربية في تاريخها بأفكار متشددة، وكان هناك توأم وتقارب واتفاق، بل واندماج بين القرار السياسي والفكر الديني إلى حد ما؛ ولكن بدا قريبًا أن هذا الفكر المتشدد أصبح يمثل ثقلًا على كاهل تلك الأنظمة وبدا يظهر على السطح نوع من المفارقة. بل والدعوة كما في كتابات لكتّاب محسوبين على النظام إلى مراجعة ذلك الفكر الديني، وهذا يشكل تحولًا خطيرًا قد يفضي إلى تعقيدات على مستويات كثيرة؛ فتقصير ثوب الفكر الذي لبسته تلك الأنظمة أو تغييره خاصةً وهو يمثل الأساس الشرعي لها قد يكشف سوءات كثيرة في تلك الأنظمة، وهذا فقط في الأنظمة التي تلبست بالفكر الديني، وفيما عداها من الأنظمة التي قامت على أفكار أخرى؛ فالأمر أخف بكثير والسؤال الذي يطرح نفسه هل يمكن للحكومات الدينية التي تتكئ في شرعيتها على الفكر الديني، أو بعبارة أخرى هل يستطيع التنويريون فيها من احتذاء التجربة الغربية التي طوعت الكنيسة وحصرت الفكر الديني فيها في زوايا ضيقة مع افتقاد أولئك التنويريين إلى النتاج العلمي العميق وإلى وجود رموز فكرية مؤهلة لإحداث التغيير المطلوب مع كون اجتهاداتهم لا تتجاوز أمورًا سطحية لا تلامس عمق التجربة الغربية. ماذا بعد؟ إن من طبيعة المجتمعات البشرية عمومًا أنها تميل إلى الدعة والخروج من الأنماط الجافة وقد نجد ذلك كظاهرة إنسانية على سبيل المثال في علم اللغويات، حيث إن ذات اللغة تمر بمراحل من التغيير في تراكيبها تخرج بها عن القواعد الصارمة وقد تكون اللهجات العامية قمة هذا التحول نحو الدعة والخروج عن الأنماط الجافة، لذلك من ينظر مثلًا إلى المنطقة النجدية مثلًا كما يحكي بعض العلماء الذين أتوا إليها من خارج المملكة(1) أن بعض النجديين كان يكفر من يلبس الملابس العسكرية، هذه الأنماط الجافة التي كانت سائدة أصبحت تقريبًا جزءًا من الماضي. لذلك تجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في تشريعه ملمًا بهذه الجزئية إلمامًا تامًّا؛ إذ يقول: (بعثت بالحنفية السمحة)، وجاء عنه (ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما)، فكان هذا منه استباقًا للطبيعة البشرية. هذا شيء، وهناك شيءٌ آخر قد نسميه الانجذاب نحو الشخصية، فلدينا في هذا الوجود عالمان عالم مرئي وعالم مخفي، أو ما قد يسمى بعالم الغيب والشهادة، وسواء كان الإنسان عموديّا أو أفقيّا في نظرته، فلن يستطيع أحد أن ينكر أثر العالم الغيبي في هذا العالم المرئي، ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيدخلها، وهذا التصور في الفرد قد ينطبق على الأمم. فمثلًا في الأندلس أثناء الحكم الإسلامي، نشأ ما يسمى بالمستعربين من المسيحيين الذين تحمسوا للعرب واللغة العربية، وكانوا في ذلك يثيرون حنق إخوانهم المسيحيين وقد نشبههم في ذلك بالتنويريين الآن، ومع كل ذلك فقد انجذبت الأمة المسيحية إلى شخصيتها وكان ما كان مما ذكر ومعروف في التاريخ. والأنماط الجافة قد تكون في الأفكار المتشددة، وقد تكون في الأنظمة الاستبدادية حتى لو كان ظاهرها ديمقراطيًّا والانجذاب نحو الشخصية أمرٌ حتمي لا مفر عنه كما ذكرنا من وجود عالمين متداخلين؛ فالخروج عن الأنماط الجافة والانجذاب نحو الشخصية أمران يعملان في ضمير كل أمة. (1) ورد ذلك عن الشيخ عبد الرزاق عفيفي.