عندما اشتعلت حرب التطهير العرقي ضد المسلمين في البوسنة على أيدي الصرب (17/4/1992 – 1995م) كنت هناك، وشاهدتُ كيف تُستباح الدماء والأعراض والديار في مذابح يشيب لها الولدان، وشاهدتُ كيف تواطأت قوات الأممالمتحدة يوم قرروا إقامة ملاذات آمنة للمدن المسلمة المحاصَرة، ولكن بدلاً من قيام قوات الأممالمتحدة بدور الحماية للمسلمين، حوَّلت تلك الملاذات إلى مصايد للمسلمين؛ ليفترسهم الصرب تحت سمع وبصر الأممالمتحدة بقيادة «بطرس غالي» الأمين العام في ذلك الوقت، وما جرى في مدينة «سربرينيتسا» مثال على ذلك. وتاريخ الأممالمتحدة مع المهمات الإنسانية بين الشعوب المسلمة المنكوبة -بالذات- حافل بالخزي والعار في مناطق عديدة، ولذا فعندما أعلنت الأممالمتحدة تدخلها في القضية السورية عبر عيِّنات من المراقبين الدوليين، ثم «كوفي عنان»، ثم «طالب الإبراهيمي»، لم يساورني شك في أن ذلك التدخل سيتحول وبالاً على الشعب السوري، والواقع يؤكد ذلك، فلا الأممالمتحدة، ولا الجامعة العربية، تمكنتا من وقف الإبادة الدائرة هناك، بل إن وتيرة القتل تتزايد يوماً بعد يوم. ومن هنا، فلا أدري لماذا يصرّ السياسي المخضرم «أحمد طالب الإبراهيمي» على الاستمرار في مهمته؟! لا أعتقد أن النظام العالمي لن يساعده على النجاح فيها، فقد ثبت أن الهدف من استحداث مهمة «الموفد الخاص للأمم المتحدة والجامعة العربية إلى سورية» هدف دعائي؛ لإبلاغ الرأي العام أن الأممالمتحدة هناك تطلع وتتابع حملة الإبادة المتواصلة بلا هوادة، دون أن تفعل أكثر من لفت أنظار العالم على الجريمة الكبرى؛ بتسليط الأضواء على تحركات سيادة «الموفد الخاص» الذي لم يفعل شيئاً على أرض الواقع، وبات يمثل سراباً خادعاً للضمير الإنساني بحل القضية عبر لقاءاته وسفرياته وتصريحاته، والنتيجة مزيد من القتل والدماء، وباتت الفائدة الوحيدة لتلك المهمة هي أنها تمثل غطاء دولياً سميكاً للمجزرة الدائرة، وهي مهمة النظام الدولي حتى الآن! ولهذا، استغربت أن يقبل السيد «أحمد طالب الإبراهيمي» -صاحب التاريخ في العمل السياسي- هذه المهمة الفاشلة من بدايتها! ولا شك في أن الكثيرين أدركوا فشل مهمته قبل أن تبدأ، خاصة أنه تطوع بقبولها خلفاً للسيد «كوفي عنان» الذي تم تعيينه قبل ثمانية أشهر (10/3/2012م)، وقالت الأممالمتحدة والجامعة العربية في بيان رسمي يومها: «إن عنان سيقوم بصفته مبعوثاً خاصاً للهيئتين بمساعٍ حميدة؛ بهدف وقف كل أعمال العنف وانتهاكات حقوق الإنسان وتشجيع حل سلمي للأزمة السورية». وفي أول زيارة له للعاصمة السورية دمشق، استقبله النظام المجرم بمجزرة «الحولة» التي يشيب لها الولدان، وراح ضحيتها مائة وثمانية شهداء -بحسب الأممالمتحدة- وقد مثلت أول اختبار ل«عنان» في مهمته لوقف أعمال العنف وانتهاكات حقوق الإنسان، ولم يخرج من الرجل يومها سوى زفرات الحسرة والغضب إزاء تلك المجزرة، وتشجع أكثر بالقول: «إنه يعتزم إجراء مناقشات جادة وصريحة مع الرئيس السوري»، مشدداً على ضرورة محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم الوحشية وتقديمهم للمساءلة. لكن تصريحاته ومطالباته تبخرت قبل أن يغادر دمشق، مبتلعاً غصة الفشل في أولى خطوات مهمته، يومها اكتشف أن مهمته تبدو مستحيلة، خاصة أنه لم يتمكن من إدخال أي قدر من الإغاثة للمنكوبين، وعلى مدى أكثر من خمسة أشهر لم يفعل «عنان» سوى عدد من الزيارات المكوكية هنا وهناك، كلفت الأممالمتحدة ملايين الدولارات، كان الشعب السوري المنكوب أولى بها. وفي أواخر أغسطس 2012م، أقر كوفي عنان بفشل محاولاته لإحلال السلام في سورية، وألقى بقنبلة كان من المفترض التوقف عندها كثيراً، ليدرك الرأي العام العالمي أن الذي يطيل أمد المجزرة الدائرة في سورية، ويقدم وقود إبادة الشعب السوري هي القوى الكبرى؛ أي «النظام العالمي»، فقد أعلن الرجل -ربما من باب حرصه على حماية تاريخه من وصمة إبادة جماعية في سورية- أن الذي يقف وراء فشل مهمته هي القوى الكبيرة التي تزعم أنها تؤيده. وبالتالي لم يقدِّم «عنان» لخلفه «طالب الإبراهيمي» خطوطاً عريضة، ولا حتى نصائح تساعده على مواصلة المهمة، وقدَّم «عنان» بتلك الشهادة دليلاً دامغاً جديداً على فشل النظام العالمي بقيادة الأممالمتحدة في وقف حرب إبادة جديدة أسوة بفشلها -بل تواطئها- في حرب الإبادة التي جرب من قبل في رواندا والبوسنة والعراق! ورغم أن «كوفي عنان» كان واضحاً في استقالته، فإن السيد «طالب الإبراهيمي» وافق على خلافته دون إفادة الرأي بما لديه بالضبط لوقف المجزرة أو حتى الحد منها، ويبدو أن تاريخه الدبلوماسي وخبرته الكبيرة قد غررت به لقبول التحدي، لكنه ومنذ توليه في أول سبتمبر الماضي حتى اليوم (نوفمبر 2012م) لم ينجح في وقف شلال الدم، ولم يحد منه، بل إن شلال الدم ازداد تفجراً، ومعدل القتل ازدادت وتيرته، كما أن نوعيته ازدادت خسة ونذالة. وغني عن البيان هنا أن وتيرة جريمة النظام بحق الشعب في بداية الثورة كانت بين عشرين وخمسة وعشرين قتيلاً، وعندما تقرر إرسال مراقبين عرب أو دوليين تضاعفت وتيرة القتل، ثم تضاعفت مع قدوم «كوفي عنان»، وتضاعفت أكثر مع خلافة «الإبراهيمي» له لتصل إلى أكثر من مائة شهيد يومياً؛ وفي ذلك دلالة على مدى صلف وجبروت النظام السوري وضربه عرض الحائط بتلك الإجراءات الدولية التي لم تقدم سوى غطاء لتلك الجريمة. لا أستطيع القول إن «الإبراهيمي» متورط في مجزرة سورية اليوم، ولكني أقول باطمئنان: إن «النظام العالمي»، وخاصة الولاياتالمتحدة استخدمت أولئك المبعوثين بدهاء وخبث؛ لمد البساط للنظام السوري ليواصل مهمته القذرة في إبادة شعبه؛ لأن النظام الدولي يرفض أن يستبدل بالنظام الدموي نظاماً آخر يخيف الصهاينة، وكان على «الإبراهيمي» ألا يتورط في ذلك، ويختم حياته الدبلوماسية بتلك المهمة التي أقل ما يمكن القول عنها إنها فاشلة بامتياز! (*) كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية [email protected]