إن أظهر الساسة وأصحاب الشأن، فشلاً في وقف نزيف الدماء، فعلينا أن لا نفشل، في وقف نزيف المشاعر. ينهمك اليمنيون في السياسة بصورة مفرطة، فصار الحوار مرضاُ، هوساً، بل إدماناً (في وسائل التواصل الإجتماعي، في المواصلات، الأسواق، الشارع، في كل مكان) بربك هل يعتقد أحد بأن تلك الحوارات ستحل مشاكل الشعب؟! في مجالس المقيل لها شأن آخر: ترتفع أسهم الحوار الحاد إلى أعلى مستوياتها في الساعات الأولى، فتكون القرارات حاسمة وحازمة، يُكلف بتنفيذها (الذي عنده علمٌ من الكتاب، لكي ينجزها قبل أن يرتد الطرف) مع مضي الوقت تتراجع حدة التوجيهات، فتعهد إلى(عفريت من الجن، لينجزها قبل القيام من المجلس) ثم تستمر أسهم الحوار بالتراجع والإنخفاض بشكل حاد منذ الدقيقة(61أو91)ويتم الإقفال عند أدنى مستوى، وبخسائر فادحة، لعل أبرزها: الإحباط، التشاؤم، اليأس، أخطر الخسائر، هي تلك المشاعر المجروحة، التي تغادر وهي نازفة، جراء التراشقات الكلامية، ذات المدى المتوسط والبعيد. بهذا الشأن: أمرين يجب التنبه إليهما. الأمر الأول: التخفيف من حدة التعاطي مع المواضيع السياسية ونتائجها بتلك الحدة، وسائل المعلومات صارت كثيرة ومتنوعة، وهي مُتاحةٌ على مدار الساعة، الأمر الذي يتطلب وقتاً أطول، مواضيعها لا حصر لها، الكثير منها إشاعات وأخبار غير مؤكدة، العائد من ذلك: توقع الأسوأ، النتائج: المزيد من القلق، وحدة الطبع. الأمر الثاني: أن يكون التعاطي مع الأطراف ذات التوجه المُغاير، بمنطقية، وعقلانية، وهدوء، وسائل التواصل الحالية يجب الاستفادة منها، في تعلم آداب الحوار، في الغالب الحوار فيها ليس مباشراً، الأمر الذي يُتيح فرصة لضبط النفس، والتفكير بعقلانية ومنطق، واختيار الرد الهادئ، الأكثر فاعلية وإقناعاً، والأكثر تأدباً، حِفاظاُ على مشاعر الآخرين، يقال(نحتاج إلى دقيقة لنجد شخصاً مميزاً، وساعة لتقديره، ويوماً لنحبه، ولكننا نحتاج إلى أيام عمرنا كلها لننساه)الجميع يريد أن يكون ذلك الشخص. الاختلاف أمر طبيعي، بل الأمر الطبيعي أن يوجد الاختلاف، البعض يُتقن أدب الخلاف، بينما يُجيد البعض خلاف الأدب، في الحوار الآراء للعرض وليست للفرض، للإعلام وليست للإلزام، لستَ مُطالباً بالرد على كل رأي وإن كان جارحاً، يقول الحكماء:(ليس الغبي بسيدٍ في قومه***لكن سيد قومه المُتغابي) وهي تعني(الدعممه) بلغة اليوم، خلاف ذلك عائده، مواقف سلبية، ونفور عاطفي تجاه الآخر. الجدل المتمترس خلف قناعات ترفض الإنصياع إلى الحقائق والأحداث، يبقى جدلاً، وينتهي كذلك، الجديد فيه، نمو ذلك النوع من الانقباض النفسي، فيبدأ ذلك الفتور في محيط العلاقات الإجتماعية، يصبح مشحوناً بمشاعر مُتنافرة، قد تتحول إلى خصومة، مع أصحاب القناعات المغايرة، بما فيهم القريبين من حياتنا، ناهيك عن البعيدين اجتماعياً. يُجيد الجدل من لا يُريد أن يعترف بحقائق الواقع، الذين لا يريدون أن يعترفوا بأنهم خدعوا، من الناحية النفسية يقول الفيلسوف كارل ساغان(إذا خُدعنا لفترة طويلة، فإننا نميل إلى رفض كل دليل على أننا خدعنا)البعض يعتبر اعترافه بذلك، قدحاً في ثقافته وشخصيته، لذلك يدافع عن الظلم باستماتة، مهما كان واضح المعالم، لأنه بالنسبة إليه غطاء يُخفي وراءه سذاجته، مأساته، جهله، هؤلاء يكون نقاشهم مُنطلقاً من(عنزة ولو طارت) هذا الصنف هو من عناه الإمام الشوكاني بقوله (جادلت العالم فغلبته، وجادلت الجاهل فغلبني) الجاهل يأتيك بحجج تافهة، مبررات واستنتاجات فاسدة. مرة قال أحدهم في حوار عن الوضع السوري(تشهد الله إنك شاهدت بعينك الأسد يضرب شعبه بالغازات) قلت (تشهد لله إنك شاهدت بعينك وجود مُخ في رأسك)؟! تبسم وقال لا هذا يختلف -يريد أن يقول: أنا أجادل كمتعصب- وأردت أن أقول: بأي أسلوب يمكن أن تدير حواراً مع شخص يتبنى ذلك المنطق، الذي لو سلمنا به لرفضنا كافة الحقائق العلمية، دينية، ودنيوية -هذه العبارة ترددت كثيراً في جدال من يدافعون عن نظام صالح، بشأن جمعة الكرامة وغيرها-. جنازير السياسة لا أحاسيس لها، عندما تؤخذ بذلك القدر المُبالغ فيه، فإنها تدوس المشاعر العاطفية التي لا غنى للإنسان عنها، حين يُخالط هذا الجدل السياسي نوعٌ من التعصب للرأي، تؤثر سلباً على العلاقات الإجتماعية، ليستمر المُضي دون الشعور بتلك التصدعات التي تصيب الجدران العاطفية لقلوبنا، التي صارت في أمس الحاجة إلى ترميمٍ عاجل، على الأقل كما نتعامل مع تراثنا الحضاري، ومنازلنا. الأمر الذي يجعلنا في حاجة ماسة إلى أن نعيش بين الفينة والأخرى في جوٍ مُختلف، في مراجعات ذاتيه للروح والعاطفة، للذات مراجعات هامة وضرورية كثيرة، يتربع على رأسها، الجانب الروحاني، بوسائله المتعددة، يليها الجانب العاطفي، الذي لا يكاد يقل أهمية عن الجانب الروحاني، كلاهما يهتم بالروح، معهما تجد للحياة طعماً مُختلفاً، مهما كانت قاسية، حين يُحلق المرء في جو تملأه مشاعر ناعمة، كتلك التي يقذفها في قلوبنا ذلك الشيء المُسمى (حُباً)إنه الشعور الذي يحمل سحراً خاصاً للعلاقات الإيجابية بين الناس، الحب يعيد إلينا ذلك الشعور الذي افتقدناه مع الكثير من حولنا، فدعونا نعيد تلك المشاعر إلى واجهة حياتنا، الحب هو الوسيلة الوحيدة للشعور بالآخر، بدون الحب لا تكون إلا الكراهية، التي أثبتت التجارب بأن كافة منتجاتها مسمومة، وخطرة. أول جرائم القتلة أنهم اغتالوا تلك المشاعر في قلوبهم، وحين ينتهي الحب تنتهي معه الرحمة، الحب والرحمة، كلاهما من أسمى المشاعر الإنسانية، و بهما امتن الله على نصفي المجتمع قال تعالى(وجعل بينهما مودة ورحمة) في ظل الوضع الراهن، تبدو العودة إلي هذا الحال أمراً غريباً، خارقاً للعادة -وبخاصة الموضوع العاطفي- كأن الطبيعي أن تكون مُنكباً على مدار الساعة، في متابعة الجديد من المصائب والأخبار المُقلقة، لكن(عد لمشاعرك على أية حال). زارني مرة أحد هم، وكنتُ في واحدة من تلك المراجعات النفسية، كنت مع الحب، استمع إلى آمال ماهر في رائعتها (سكن الليل) كان صديقي مُبتسماً، بل مُندهشاً، علق بالقول: أتعشق؟! قلت: قديماً قالوا (إذا أنت لم تعشق ولم تعرف الهوى*** فقم وعتلف تبراً فأنت حمارُ) قال: هذه قوية، لكنها قاسية أكثر من اللازم، ألا يوجد ما تستدل به غيرها ؟! قلت: بلى هناك قول آخر: (الحُب في الأرضِ شيءٌ من لوازمها *** لو لم نجده عليها لاخترعناه). قال: هذه خيرٌ من سابقتها، لكن المثل يقول(ما يغني إلا سالي ولا مكروب) أجبته: ليس كِلاهُما، ثم قلت: أنا لا أغني، بل أستمع، ثم سألت: ألا يوجد لديك مثل يمكنه القول بإمكان المحب أن يستمع إلى الغناء ؟! قال: عن أي حُبٍ تتحدث ؟! الحب الخاص أم الحب العام؟! قلت: القلب الذي بمقدوره أن يخفق عند الحديث عن نصفه الآخر، هو مؤهلاٌ لحب الناس جميعاً، تبسم ثم بدأ يستمع: سكن الليلُ والأماني عِذابُ ***** وحنيني إلى الحبيب عَذابُ كلما داعب الكرى جفن عيني ***** هزني الشوق وأضناني الغيابُ ياحبيبي هواك أضنا فؤادي ***** وكأن الجوى بجسمي حِرابُ أضرم النار في الحنايا لهيباً ***** مثل ليلٍ أضاء فيه شهابُ وأنا في ذرى الغرام غريقٌ ***** ملئ عيني دُجاً كساه الضبابُ ليكسر استماعه، مُعلقاً: كلمات رائعة، لكن الأمر لدينا يختلف، شُغلنا بقضايا كثيرة، صرنا بها مخنوقين نصارع من أجل البقاء، مثل هذا الوضع لا مجال فيه للإنشغال بالأمور العاطفية، صرنا غير قادرين على التذوق اللائق لهذه القضايا، لم يعد لدينا الوقت الكافي للإستماع إلى قضايا كثيرة في حياتنا الخاصة، الجميع يفكر فقط في لقمة العيش، كيف سيجمعها، كيف سينفقها. هو أراد أن يجرني إلى حوار سياسي -برغم أنه ضغط على أوجاع لا ينكرها أحد، ذلك الحال من أسباب تصدع العلاقات الإجتماعية، الذي نريد له علاجاً -وأردت أن أقول له يمكن الخروج من ذلك الجو، عندما نتذكر أوجاع من نوع آخر، تلك الأوجاع العذبة للحب، الأوجاع التي نسي أنها في جوانحه، أردت أن أو قضها فيه -تماماً كما أحاول أن أفعل معكمُ الآن- فعدت للاستماع إلى حوار آمال ماهر. أنا والشوقُ في الغرام ضحايا **** سَرق البُعد عمرنا والغيابُ قدرٌ نُهدرُ السنين سهارى **** ليلنا غربة فكيف المآبُ ننشد الوصل قد يكون قريباً **** هل على العاشقين ثَمّ حِسابُ رُبما نلتقي غداً ونغني **** لحن حبٍ غِناءه مُستطابُ وغداً تنبُت الرياضُ زهوراً **** ويعود الهوى لنا والشبابُ كلما طال بُعدنا زِدتُ قرباً **** يجمعُ الحرفُ بيننا والخِطابُ ليعلق بالقول: بالفعل إنها كلمات تنفض رُكاماً كثيفاً عن عواطف كانت في زوايا النسيان، ثم عاد ليقول: لكن الحديث في السياسة والبحث عن جديدها، يجعل الوقت يمشي سريعاً، وإلا في أي موضوع يمكن للناس أن يشغلوا أنفسهم ؟! قلت: أي موضوع تنعكس آثاره على نفسيتك بشكل إيجابي، فقط تجنب البحث عن المستجدات السياسية ولو ليوم واحد في الأسبوع، أو لساعات في اليوم، ثم اقترحت، ولو أن تستمع إلى شيء من الفن، كما كنت أفعل. سألته: ألا يروقك الإستماع إلى(هيجت ذكراك قلبي)محمد عبده (ياهائماً)فاطمة زيدان، أيوب طارش(أنا مع الحب، ياصبايا، هيمان، كثيرة روائع أيوب) وردة الجزائرية(طبعاً أحباب)أم كلثوم(أغداً ألقاك، حسيبك للزمن) ثم تداركت الأمر قائلاً: إذا كان لديك رأي فقهي بهذا الشأن، فهذه المُختارات لا تدخل ضمن الموسيقى الصاخبة، أو الألفاظ الهابطة، ففيما يُسمى بالأناشيد أو الفن الإسلامي اليوم، مالا يوجد في الكثير من هذه الأغاني، وبخاصة ذلك النوع الكلاسيكي، ثم قلت: حسناً، دع الأغاني والموسيقى جانباً، حاول الإطلاع على مواضيع أخرى: روحانية، فقهية، علمية، أدبيه، تاريخية، قصص، نوادر، أي شيء عدى السياسة، لا تجعل من يومك كله سياسة، أو بحثاً عن الموجعات. ثم عقبت بالقول: ما أريد قوله، أن تحاول الخروج، بين الفينة والأخرى، عن النمط الروتيني المتعلق بمستجدات الأحداث، هذا الأمر أصبح واحداً من أفضل العلاجات النفسية في العصر الحالي. قال: أراك تحوم حول الحب، فقلي مالحب؟! -هو بدأ يستجيب لنداء الفطرة، الرباط الوثيق للعلاقات الإنسانية، وأنا بدأت أنجح- أتمنى أن أكون قد فعلت ذلك معكم الآن. أجبت: هو ذلك الداء الذي يُصيب المُحب، فيُبقيه مُتقلِباً بين مُعاناة الحب، والإستمتاع بلحظات القرب والوصال. ذم شفتيه ثم تبسم وردد(الحب هو ذلك الداء)أي توصيف هذا للحب؟! الداء يعني آلام، أوجاع، سهر، مُعاناة. قلت: بالفعل تلك بعض أعراضه التي يشكو منها المُحبين، غير أن لها ذوق من نوع آخر، عندما يُسببها ذلك الشيء الذي نسميه (حُباً) كل ما قيل عن الحب يا عزيزي، لا يعدو سوى توصيفاً لبعض أعراضه التي تصيب المُحب، أما الحُب، فإنه شعورٌ غامض، لم يتمكن أحدٌ من تعريفه، ليبقى ذلك الغموض شيءٌ من أسراره، لعله أجمل مافيه. الشعور بالحب، يمنح الإنسان طاقة مُفعمة بالإيجابية، يمتد تأثيرها على المحيط من حوله، فيشعر بأهمية ذاته أولاً، ومن ثم المحيط من حوله، القلب المُحب، محطة إرسال متنقلة، تمد الآخرين بذلك النوع المتميز من الشعور الإنساني، لذلك فالمُحب يعمل جاهداً ليعم ذلك الشعور كافة المجتمع. -كأن قلبه بدأ يُنقب في ثناياه عن تلك المشاعر- فقال: لقد أثرت فضولي، سيكون هذا أول لقاء، أخرج منه بنفسية ذات مشاعر مُرهفة، فزدني منها. قلت: إذاً استمع إلى هذه الأبيات، لفتاة قررت أن تنفض عن عواطفها ركام من الأعباء، نسيت معها تلك المشاعر المُرهفة، اعتقدت بأن الأحداث قد دفنتها، وبمجرد أن تذكرتها، اعترفت بها، تفتحت أزهارها كأجمل ربيع، إنها صورة متميزة لعلاقة نصفين. ثم أكّدتُ القول: مطلوبٌ منا فقط أن نضع قطرات من الذكرى الجميلة، نُلقيها على تلك الورود الذابلة في عواطفنا، وستعود إليها نظارتها، مهما كانت الأحداث التي أذبلتها، فسرعان ما تُزهر، ليصبح القلب مصاباً بالعدوى، بل يصير مُعدياً، حين يكون مُحِباً ومحبوباً، من لم يجد في قبله الشعور بهذا الداء، فمن حقه علينا أن نُصلي عليه أربع تكبيرات. ماذا أقول له لو جاء يسألني؟ *** إن كُنتُ أكرهه أو كنت أهواه؟ ماذا أقول، إذا راحت أنامله *** تلملم الليل عن شعري وترعاه؟ وكيف أسمح أن يدنو بمقعده؟ *** وأن تنام على خصري ذراعاه؟ ****** أما انتهت من سنين قصتي معه؟ *** ألم تغب كخيوط الشمس ذكراه؟ أما كسرنا كؤوس الحب من زمن*** فكيف نذكر كأساً قد كسرناه؟ حبيبتي ! هل أنا حقاً حبيبته ؟ *** وهل أصدق بعد الهجر دعواه؟ ****** رباه.. أشياؤه الصغرى تُعذبني *** فكيف أنجو من الأشياء رباه؟ هنا جريدته في الركن مُهملة *** هنا كتاباً معاً .. كنا قرأ ناه على المقاعد بعضٌ من دفاتره *** وفي الزوايا .. بقايا من بقاياه ****** ما لي أحدقُ في المِرآة .. أسألها ***بأي ثوب من الأثواب ألقاه أأدعي أنني أصبحت أكرهه؟*** وكيف أكره من في الجفن سُكناه؟ وكيف أهرب منه؟ إنه قدري*** هل يملك النهر تغييرا لمجراه؟ ****** أحبه .. لست أدري ما أحب به*** حتى خطاياه ما عادت خطاياه نعم سأخبره لو جاء يسألني*** إن كنت أهواه إني ألف أهواه غدا إذا جاء .. أعطيه رسائله *** ونطعم النار أحلى ما كتبناه الحب في الأرض شيءٌ من لوازمها*** لو لم نجده عليها لاخترعناه [email protected]