مشكلة التطرف المؤرقة التي تزداد انتشاراً في بعض المجتمعات العربية تتغذى على الأفهام المغلوطة للدين وجوهره الحقيقي، وتتغذى على الغفلة الكبيرة والإهمال الشنيع لمقتضيات ضرورة الوقوف على مقاصد الدين، التي تجعل الإنسان على بصيرة فيما يفعل وفيما يقول وأين يقف، وهذا الجهل المزري يترسخ بجهود طرفين كبيرين متناقضين مجتمعاتنا؛ طرف ينتسب إلى الدين ويتغطى برداء شكلي مغرق في السطحية وضحالة الفهم المقاصدي، وطرف آخر معادٍ للدين ويرفض فكرة التدين ويتفرغ للمواجهة بمنهجية أصحاب الفهم القشوري نفسه، فكلاهما مخطىء في فهم الإسلام، وكلاهما يتعاونان على إذكاء بذرة التطرف، وتعظيم هذه الظاهرة وتنمية البيئة المناسبة لرعايتها، وكلاهما يستثمر في هذه المسألة على طريقته. من المعلوم في الدين بالضرورة، وما هو محل للإجماع المطبق الذي لا خلاف فيه بين العقلاء، أن الدين جاء لتحقيق مصلحة العباد، وتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة، في كل أحكامه وتشريعاته، وما هو محدد على شكل قواعد صارمة وواضحة: أن الأحكام الشرعية مغياة، أي لها غاية ومقصد، أو بتعبير آخر أن الأحكام الشرعية معللة، بمعنى أن لكل حكم عله، برتبط بها الحكم وجوداً وعدماً، ويجب على كل مكلف عاقل أن يعرف الغاية والمقصد، وأن يعمل على تحقيق هذه الغاية وهذا المقصد، وكل من يناقض مقصد الشارع فعمله باطل قطعاً. تأتي المشكلة الأولى من أولئك الذين يقعون على النصوص صمّاً وعمياناً، ويتشبثون بظواهرها بطريقة جافة وجاهلة تخلو من الفهم المطلوب، وتخلو من عمق الفكرة ولا يتعرف على المقصد الذي أراده الله عز وجل من كل ما شرع، والسبب يعود لضحالة في الفقه، أو لممارسة التدين بطريقة التقليد الأعمى المتوحش، فتجعله يلهث خلف بعض المقولات المجتزأة لبعض العلماء من سياق الفكرة، وسياق المرحلة وسياق الظرف الزماني والمكاني، وسياق حجم العلم والمعرفة الذي كان سائداً في وقت من الأوقات. وتأتي المشكلة الثانية من خلال الفهم المعوج لكثير من الذين تعلموا في دوائر الانفصام النكد الذي عاشته أوروبا والعالم الغربي على تراث القرون الوسطى التي شهدت الصراع المعروف بين الكنيسة وأرباب السياسة والحكم والعلم والمعرفة في تلك الحقبة من الزمن، وأورثت فهماُ خاصاً للدين والتدين، يُراد تعميمه على الشرق والعالم العربي والإسلامي، الذي شهد سياقاً مختلفاً في بناء العلاقة بين الإسلام والعلم والمعرفة، وبين الإسلام والحضارة، حيث تشكلت الأمة بتراثها وتاريخها وقيمها وعاداتها وأعرافها ومناهجها ونهوضها الحضاري الذاتي المتميز المختلف. في خضم هذا الجدل، يتوجب على الجامعات وكليات الشريعة أن تطرح منهجية علمية في تدريس طلبتها تقوم على الفهم المقاصدي، حيث أن الغزالي كان أول من التفت إلى هذه المنهجية، ثم التقطها الشاطبي وبسط فيها الشرح بكتابه الشهير (الموافقات)، ثم تبعه ابن عاشور وعلال الفاسي من المغاربة في هذا السياق، وربما يكون «الريسوني» من المعاصرين الذين أولوا هذه المسألة اهتماماً جيداً يستحق التقدير، ولذلك يقترح أن يكون تدريس (مقاصد الشريعة) عبر متطلب جامعي يتبنى تسهيل هذا الطرح بأسلوب واضح ورشيق ومحبب، من أجل الإسهام في توحيد العقل العربي المسلم على منهجية تجمع ولا تفرق، وتوحد صفوف الأمة على القواعد والكليات ومنظومة القيم والمبادىء التي تسهم في تصحيح الفهم أولاً، وتسهم في توحيد صفوف الأمة على الجوامع والمشتركات وتشكل طريقاً علمياً لمواجهة الأفهام المتطرفة من مختلف الجهات.