عاود د (جابر عصفور ) ( 1944_ …) ابن ( المحلة الكبرى ) تفجير الزوابع الإيديولوجية ، مجددا ، ولكن الزوابع في خريف الأعمار وقد وخطنا الشيب وتقوس الظهر واعتلت الحركة وخذلتنا الذاكرة و اللياقة الذهنية ، ليست هي بالقطع الزوابع التي كان يفجرها الشخص نفسه منذ عقدين أو حتى بضع سنوات ، إذ لم يعد لها نفس الوهج أو الحماس المشبوب أو مواتاة الأدوات أو مهابة الصرخة وضخامتها ، فقد بدت المغامرة الإيديولوجية هذه المرة عجوزا كسنوات العمر ، منطفئة بلا أي وهج ! ونسي د ( عصفور ) أن الرصيد الجماهيري الضامن لوهج المغامرة وجدواها قد تآكل للحد الأدنى الذي تختفي معه الأصداء ويغيب معه المذاق الحريف اللاذع للمغامرة برمتها ! خرج د (جابر عصفور) علينا ، بعد صمت مهيب ، منذ أطيح به خارج وزارة الثقافة ، حقيبته الوزارية المفضلة ، ليقارن بفجاجة مستفزة تحمل النفس الطائفي الرديء ، بين (الإسلام) و (المسيحية) ، على هامش قضية تجديد (الخطاب الديني) ، العلك الذي تمضغه كل الألسن هذه الأيام دون وعي ، وبدت المقارنة شديدة الضحالة تكاد تماثل ضحالة من يقارن بين (برشلونة) و (ريال مدريد) ليغازل غضب الجماهير و يستفز عصبيتهم الكروية الملتاثة ، غير مدرك أن منطقة التحرك هذه المرة هي عقائد وإيمانات لا يتعين أن نستخف بولاء أصحابها أو نتجاهل حقهم في أن تحترم أديانهم و عقائدهم ، معتنقا و تاريخا و رموزا ! قال د عصفور ، حين سحبته أسئلة الصحفيين إلى المساحة الطائفية السوداء من السؤال المتصل بمساحات التماس أو التخالف بين الإسلام والمسيحية في موضوع تجديد الخطاب تحديدا : ( … على الأقل فإن المسيحية لم يوجد بها عنف مسلح ..!!) و هي عبارة – فضلا عن خطئها التاريخي المؤكد – تكاد تسقط باستفزاز لا يمكن تحمله أو تمريره ، في المساحة المقابلة المفهومة ضمنا على الإسلام و تجعل (العنف المسلح) حكرا عليه و سمة ملتصقة به لا تنفك عنه و لا ينفك عنها ! كانت كلمات عصفور بهذه الصياغة سخيفة إلى أبعد غايات السخف ، ضحلة بكل معاني الضحالة ، مفعمة بالنفس الطائفي بصورة حقود موتورة نستنكر أن تصدر حتى عن مراسل أجنبي أو محلل عنصري أو حاخام متهوس ، ولم يدر بخلدنا أن تصدر عن أستاذ جامعي مصري عربي مسلم سلخ عقودا في السلك الجامعي ، وصدع الرؤوس لسنوات ممتدة عن ( التنوير ) الذي يرد في مقالاته و إطلالاته الصحفية عشرات المرات _ إلى حد الإملال ! _ دون أن يفكر و لو لمرة واحدة في أن يقدم تعريفا ل( التنوير ) الذي يعنيه ! و هو أمر لا يبعد بنا كثيرا عن عبارة ( الدولة المدنية ) التي يكررها في مقالته الواحدة ببغاويا عشرات المرات دون أن يقدم لها تعريفا واحدا نحاسبه به و نسائل أفكاره بوضوح كافٍ ! و حين سئل عن تجديد الخطاب الديني المسيحي ، أسوة بتجديد الخطاب الديني الإسلامي ، قال محاولا أن يفتعل اللباقة و اللياقة : ( هذا شأن داخلي خاص بالمسيحيين وحدهم ! ) و برز سؤال عفوي في أذهان القراء : ( و لماذا لا يتعامل بعشر معشار هذه اللباقة و اللياقة مع عقائد المسلمين و تاريخهم الوجداني و الثقافي ؟! ) أم أنه _ مجاراة للتوجه العام الآن ! – فضل أن يرتكن على الحائط الواطيء الذي يغتاله الجميع معنويا هذه الأيام بعد أن أبرق الخطابان الرسمي و الإعلامي بالضوء الأخضر _ بحسب فهم البعض _ فانفجرت كرنفالات الاستباحة بجنون غير مسبوق في تاريخ مصر الفكري الحديث ! و برغم أن روح العدالة و محجة الإنصاف الواجب و احترام كلمة العلم الصارمة , هي ضوابط تلزمنا _ في المجمل _ أن نقول إن عصفور قدم للمكتبة كتبا مفيدة حقا عبر سنوات , تأليفا و ترجمة , على نحو ما نجد في كتب بوزن ( قراءة التراث النقدي ) أو ( آفاق العصر ) أو ( مفهوم الشعر ) , أو ترجمات بوزن ترجمته لكتاب ( عصر البنيوية ) ل( إديث كريزويل ) , غير أن الإنصاف نفسه يقتضينا القول إن الهالة البراقة التي صنعتها الميديا لعصفور عقودا , قد جعلتنا نصمت طويلا عما يطبع أفكاره و أطروحاته و صياغاته , في كثير من الأحيان ، من التعميم المجاني أو التعامل مع قضايا الثقافة الإسلامية بالخصوص بما أسميته ( روح المراسل الأجنبي ) بكل ما تعنيه الكلمة من ملمح الاغتراب الشامل ! ويبدو أن سنوات عمل الرجل ( منذ التحق بالسلك الاكاديمي عام 1966) أستاذا زائرا في جامعات ( ويسكونسن ماديسون ) الأمريكية أو ( ستوكهولم ) السويدية أو ( هارفارد ) ، قد دمغته حقا بروح ( المراسل الأجنبي ) ، فهو يتعامل مع قضايا الفكر الإسلامي بمنحى شديد الضحالة و التهجم معا ! هل كان حقا يا د عصفور ما قلته من أن تاريخ المسيحية ، لم يعرف عنفا مسلحا ، وأن الإسلام _ وحده _ هو من عرف العنف المسلح ؟! و هل قرأت تاريخا غير مانعرفه من تاريخ سطره المؤرخون الثقات ؟! هل راجعت تاريخيا يا د عصفور ، مذبحة ( سان بارثلميو ) بين الكاثوليك و البروتستانت و التي راح ضحيتها ألوف الأبرياء ؟ ! و هل تابعت تاريخ الحروب الطائفية العنيفة في أوروبا , خصوصا حرب الثلاثين عاما في ألمانيا ، و هي مجازر دمرت مدنا و طمرتها تحت الرمال ؟! هل راجعت تاريخ منظمة ( الألوية الحمراء ) في أوروبا حيث ارتكب ( ريناتوكو ريكو ) و رفاقه ما يربو على سبعين جريمة قتل بشعة بين عامي 1970 و 1988, بما في ذلك الاختطاف و نهب البنوك و اغتيال رئيس الوزراء الإيطالي ( ألدو مورو ) عام 1978 ؟! وهل راجعت جيدا مجازر ( محاكم التفتيش ) الكاثوليكية في القرنين الخامس عشر و السادس عشر ضد من اعتبرتهم الكنيسة _ آنذاك _ ( هراطقة ) و مارقين ، حيث قدر بعض المؤرخين ضحايا هذه المحاكم ب ( خمسة ملايين ) من البشر ؟! خمسة ملايين يا د عصفور و هو ما يوازي الآن تعداد دولة بحجم إسرائيل ؟! وهل راجعت ما صنعه المجرم الأمريكي المتهوس دينيا ( كريس كايل ) في مسلمي العراق ؟! ألم يكن هذا كله عنفا مسلحا أم تراه كان شيئا ( تنويريا ) آخر لا نعرفه ؟! من قصدت يا د عصفور بهذه المغازلة السمجة التي لم ترض مفكري الأقباط أنفسهم بوزن ( جمال أسعد ) الذي أقر باحتياج جميع الخطابات إلى التجديد الديني فأسقط دشا باردا على مغامرتك الإيديولوجية الأخيرة العجوز وجعل مغازلتك شديدة السخف ؟! وماذا تنتظر من وراء هذه المغامرة الآن من الحصاد و المكتسبات بعد أن مضت قاطرة العمر و دنت محطة الخريف ، و قد كان المجلس الأعلى للثقافة _ سنوات طويلة _ ضيعة خاصة بك لا يقربها إلا من ترضى عنهم و تعمدهم برضائك السامي ؟! وما زال المجلس _ حتى الآن _ ضيعة خاصة بتلامذتك الذين يكملون ما بدأت بذات الروح الإقصائي المؤدلج الأسود ، على نحو تعمقت معه جراح مصر و نزفت دون توقف ، وكنت سببا مباشرا من أسباب هذا النزيف الذي أحنق الصدور وملأها بالأحقاد المؤدلجة و الطائفية التي نسدد فاتورتها الآن ؟! آن الأوان لكشف أخطائك التاريخية القاتلة التي تناثرت في مقالاتك و منع البعض من فضحها الطمع في ذهب المعز أو الخوف من سيفه ! ألم تكتب في مجلة ( الهلال ) في ديسمبر 2012 في مقالتك : (ذاكرة تعرف قدر الكبار) : ( ..وكان البيت الأخير ترجمة شعرية للجملة التي ذكرها المؤرخون على لسان الرسول : حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر …) ! يا د عصفور هل عبارة ( حكمت فعدلت ..) قالها الرسول ( صلى الله عليه و سلم ) في حكم عمر و قد مات الرسول قبل حكم عمر و أبي بكر معا !! أنه الخطأ الساذج الذي لا يفسره إلأا ما أسميته هنا ب( روح المراسل الأجنبي ) و هي الروح التي لم تبارحك يوما في التعامل مع قضايا الفكر الإسلامي ! أليس أجدى يا د عصفور و نحن في بقية أعمار أن نراجع مواقعنا بروح حكيم مسؤول مدفوعين على الأقل بدنو الأجل و عدم مواتاة الأعمار ، راجع نفسك جيدا ، فكرا وموقفا ، وتذكر أن أحد المتظاهرين ضد قرارك الأخير بإنهاء انتداب د سيد خطاب _ وانت في الوزارة الثانية لك _ قد وقف في جملة المحتشدين ضدك من موظفي قصور الثقافة وقد حمل ( القبقاب ) في شارع ( شجرة الدر ) حين نظم العاملون وقفة شهيرة ضد قراراتك و هو ماعقبت عليه الصحافة طويلا ! سل نفسك لماذا يمكن أن يبغضنا إنسان إلى هذا الحد ؟! وسل نفسك هل تحتاج شيخوختنا إلى مغامرات إيديولوجية لم تعد لياقتنا الذهنية و لا أعمارنا تحتملها أم إلى وقفات مراجعة فكرية جادة من نمط مراجعات المفكر العظيم الراحل د ( عبد الرحمن بدوي ) ( 1917 _ 2002 ) الذي أصبحت شيخوخته في باريس في سنواته الأخيرة قبل الرحيل درعا ضخما في وجه حملات ( الإسلاموفوبيا ) ؟! شيخوختنا يا د عصفور لم تعد تحتمل ( الزوابع ) بل (المراجعة الصادقة) و (التصحيح) متى لزم الأمر !