اصطناع التهم وإطلاقها وتوظيفها ونشرها أصبح مهمة سهلة في عالم معولم تمسك بخيوط تفكيره وتصرفاته آلة إعلامية تحترف التضليل بحسب التمويل والأهداف السياسية! إنّ جزءا من فهم المصطلح وتطبيقاته يكون بضبط وفهم معناه اللغوي كما يصوغه العلماء في المعاهد لا كما يطبقه الساسة وقادة الجيوش في الواقع، ولكن ليس كل المصطلحات لها معان موضوعية وعقلانية، بل إنّ التطبيق هو ما يعرّف الناس بها ويعطيها صفتها الأدوم، فمصطلح الإرهاب كما تعرفه أمريكا والدول الأوروبية والمؤسسات الدولية بدأ استخدامه في عهد ريغان وكان يعرّف في الكتب والتعميمات الصادرة عن الإدارة الأمريكية بأنّه «الاستخدام الممنهج للعنف أو التهديد بالعنف لتحقيق أغراض سياسية أو دينية أو أيدلوجية من خلال الترويع والتخويف والاستبداد». ولكن ما بين السطور والشروحات غير المعلنة والرسائل غير الرسمية كان هناك توجيهات لأقطاب الإدارة الأمريكية بأن لا بأس في استخدام القسوة على الإرهاب واستخدام كل الوسائل الممكنة لحماية الحق! ولكن مَن يحدد جانب الحق وفريق الحق؟! هو الفريق الذي تتبنّاه وتسانده أمريكا، وغير ذلك هو الفريق الإرهابي الذي يجب استخدام كل الوسائل، مهما كانت بشاعتها، للقضاء عليه دون ملامة ولا محاسبة، فإلصاق تهمة الإرهاب بالفريق الآخر يكفي لنزع أيّ حرمة وقدسية عنه وقتله دون مطالبة أحد بديّته أو القصاص له وبهذا تكون الجريمة مكتملة العناصر دون كشف للمجرم أو معاقبة له أو حتى توجيه أصابع الاتهام! إلاّ أنّ أمريكا بسياساتها ومعاييرها المزدوجة وقفت عام 1987 وصوّتت ضد قرار أممي يدين الإرهاب معترضة بالذات على الفقرة التي جاء فيها «الإرهاب لا يشمل الدول ولا الجماعات الذين يسعون نحو الحرية والاستقلال وتقرير المصير، فهؤلاء ليسوا إرهابيين ويضاف لهم أيّ شعوب تُنتهك حقوقها وبالذات الشعوب المُحتلة أو المحكومة من أنظمة قمعية وعنصرية وهؤلاء الشعوب يجب أن يتلقّوا الدعم والمساعدة». أمّا لماذا وقفت أمريكا، رائدة ما يعرف بالحرب على الإرهاب، في وجه إقرار هذه القرار الذي يعرِّف الإرهاب ويحدد من ينطبق ومن لا ينطبق عليه، فببساطة لأن أول المتأثرين من هذا القرار وأول من سيوصم بالإرهاب ويعاني من تبعاته من الملاحقة القانونية والعقوبات الدولية هي ربيبة أمريكا: «إسرائيل». فتعريف الإرهاب كما تريده أمريكا وتستخدمه يشمل أنّ ما تفعله هي تجاه الآخرين ليس إرهابا، بل هو تدخل إنساني بنيّة حسنة أو إجراء جراحي سريع ومؤثر، وحتى لو بدأت أمريكا بالاعتداء فلا بأس إذا كان ذلك يحقق مصالح عليا هي أيضا من يحددها وفقط ما يفعله الآخرون ضدّها هو الإرهاب، ولو كان ذلك في أبسط صور الاعتراض على سياساتها. والتلاعب بالمصطلحات حسب الحاجة هو ما لجأ إليه رئيس وزراء بريطانيا السابق ومبعوث الرباعية إلى الشرق الأوسط توني بلير في مقالته الشهيرة بعد الانقلاب في مصر، والذي رفض وصفه بالانقلاب، بينما قال إنّه في بريطانيا لا يتدخل الجيش في الحكم ولا تكفي المظاهرات لتغيير نظام الدولة، كل ما تفعله أنّها تغيِّر الحكومات وواجبنا التدخل لإعادة الاستقرار للشرق الأوسط! أمريكا وبريطانيا والعالم المتحضر لا ينطبق عليهم ما ينطبق علينا، فلسنا من الرشد بمكان لنأخذ وننفّذ قراراتنا، فهل من الممكن أن تتساوى الرؤوس؟! إنّ الحرب على الإرهاب التي اخترعتها أمريكا نهايات القرن الماضي لإحكام سيطرتها على العالم وإيجاد موطئ قدم لها حيثما أرادت بذريعة محاربة الإرهاب هي من أدّت إلى إيجاد التطرف في العالم العربي، وقد نختلف على الوصف بالتطرف، فمن الناس من يرون هذه الجماعات مدافعة عن الدول والشعوب وشعارها «اخرجوا من أرضنا ولا نقربكم»، ولكن أمريكا وظّفت وجودهم لزيادة توغّلها في المنطقة بهدف واحد هو السيطرة على مصادر الثورة والطاقة، ونظرية افتعال أمريكا لأحداث 11-9 أو على الأقل سكوتها بعد علمها بوجود المخطط نظرية معتبرة في تفسير الأحداث لأنها بعد هذه الكارثة انفلتت في العالم العربي بأذرع أخطبوطية احتلالا وتقسيما بحسب مصالحها، فقد حرص بعض أقطاب السياسة الأمريكية وأعوانهم مثل رمسفيلد وولفوتز وزلماي خليل زاد على إطلاق مشروع القرن الأمريكي الجديد «PNAC» «Project for the New American Century»، والذي يقول في أدبياته أنّ أمريكا بحاجة إلى بيرل هاربر جديدة لتطبيق سياساتها حول العالم، وهذا ما حققته أمريكا، فبعد بيرل هاربر دمّرت شعبا بالقنابل الذرية دون أن يلومها أحد وبعد 11-9 حكمت العالم دون أن يسائلها أحد. ثم تلاعبت أمريكا بباقي المصطلحات والممارسات السياسية، فأصبحت الديمقراطية لا تعني خيار الشعب الحر وإنّما انتخاب من تريده أمريكا وبغير ذلك لا تكون ديمقراطية ويصبح دور أمريكا، شرطية وحارسة الديمقراطية، إلغاء النتائج الديمقراطية للحفاظ على الديمقراطية! ولو أدى ذلك إلى الكوارث وعدم الاستقرار والخسائر، فذلك له أيضا تغطية أمريكية وتفسير مقبول وجاهز للتسويق الإعلامي، فالكوارث التي تحصل بعد الانقلاب على الديمقراطية التي لا تعجب أمريكا تكون من باب الأذى غير المتعمد وهو ما أسمته أثتاء الحرب على العراق، «collateral damage»، أو اللااستقرار البناء «constructive instability» والذي لا بد منه حتى تعود الأمور إلى طبيعتها ونتقدم إلى الأمام، وفي هذه الأثناء من الاحتلال غير المرئي أو حتى المرئي بالقواعد والقوات الخارجية تنجز أمريكا ما تريد فعله في الدول والمنطقة! ويقول تشومسكي في كتابه «الحرب الخطرة Perilous War» إنّ أمريكا سيدة النفاق وهي لا تهتم بحقوق المرأة والطفل والحريات والأقليات كما تدّعي في الدول التي تتدخّل فيها، هي فقط تهتم بحكم العالم ومصالحها وعدم فقد السيطرة للدول والقوى الناشئة والجماعات الصاعدة فهي تتعامل مع الشرق الأوسط ودول العالم الثالث منذ إدارة الرئيس ويلسون كالطفل الشقي naughty child الذي لا يعرف مصلحته ويحتاج يدا حازمة stiff hand لتأديبه! وعلى آثار أمريكا السيئة قامت دول العالم الثالث بإصدار قوانين إرهاب بهدف التضييق وإحكام السيطرة على شعوبها، وبهذا كلما قامت الشعوب للمطالبة بالإصلاح تُتهم بالإرهاب للقضاء عليها وما تهم إطالة اللسان وتقويض النظام وإقلاق السلم العام إلاّ تهماً جزافاً اصطنعها العرب كما اصطنعت أمريكا الإرهاب. إنّ من يتحكّم بالمصطلح والمفهوم يملك القوة في تطبيقه بالطريقة التي يراها مناسبة، وسيراها البشر مناسبة حتى لو كانت تهوي إلى درك الحيوانية فشيطنة الخصم تُسقِط عنه الإنسانية وتصبح تصفيته حلالا مرغوبا فيه ومستحبّا، والقوة المعرفية التي مكّنت أمريكا من إنتاج المصطلح وغسيل الأدمغة هي خطيرة بذاتها كاستخدام الأسلحة التقليدية. أمريكا هي من تمسك بخيوط المشهد حتى وإن استخدمت دمى متحركة من الدول العربية لتظهر في الواجهة ولكن ما تزال هناك عيون محايدة ودول وشعوب حول العالم لا تدخل في بيت الطاعة الأمريكي وهي رأت وترى وسنرى أنّ السلمية ستكون أقوى من الرصاص على المدى البعيد وأنّ السلم ليس استسلاما وأنّ الكف ستصمد للمخرز مع دفع ضريبة التضحية التي لا بد منها لكل شعب تحرر حول العالم. من الإنجازات أنّ أمريكا لم تفلح، برغم الدماء التي سالت، من جرّنا لفخ الحرب والعنف المضاد لأنها لو نجحت ستكون قد انتصرت واستأصلت شأفة الإصلاح في الدول العربية نهائيا، الصمود السلمي سيؤتي أكله ولو بعد حين. الإرهاب تهمة ولكن إثباتها صعب والعالم لم يعد أعمى ولا أبكم بالكلية ولكن طريق التحرر طويل ومحفوف بالتضحيات.