كلما لاحت بوادر انفراج سياسي في تونس، تتحرك آلة القتل والإجرام؛ من اغتيال شكري بلعيد إلى محمد البراهمي، وصولا إلى تفجيرات أمس. وفي ألف باء علم الجريمة أن المستفيد منها هم أعداء تونس؛ أعداء الديمقراطية؛ أعداء شركاء الحكم: حركة النهضة، والمؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات. والمطلوب ليس إيصال "نداء تونس" أو فلول زين العابدين بن علي إلى الحكم، ولا حزب العمال الشيوعي، وإنما تدمير البلد الذي شهد ميلاد الربيع العربي، وإغراقه في فوضى وعنف وإرهاب، بحيث يظل عبرة لكل من فكر بالثورة. وقع أول اغتيال في تونس عشية التصويت على قانون تحصين الثورة. كانت البلاد ستبدأ مرحلة محاسبة جدية لكل من أجرم بحق تونس واغتال خيرة شبابها. لكن المجرمين قطعوا الطريق، ليصبح الثوار هم المتهمون. حركة النهضة لم ترتكب وهي في المعارضة تسام سوء العذاب، جريمة عنف واحدة، حتى ترتكب مثل هذه الجرائم وهي حاكمة! فبأي منطق يتآمر الحزب الحاكم على نفسه؟ السؤال الآخر البسيط: أين ذهب جلاوزة ابن علي؛ من قناصة فجروا رؤوس المتظاهرين، إلى جلادين ومحققين ورجال أمن؟ هل تبخروا؟! كوادر أجهزة الأمن والاستخبارات والتجمعيين ما تزال في الشوارع وتحتل شاشات الفضائيات وتشكل أحزابا، وتقدم نفسها بديلا، وفي الخفاء تمارس دور القتل وتمويل القتلة وتوجيههم. إن من يحرضون اليوم في الإعلام على الحاكمين بالصناديق في تونس، هم من كانوا يسبحون بحمد ابن علي وزوجته. لا يوجد إعلام منصف في تونس؛ إعلام المدح والنفاق، تحول إلى إعلام ردح وتشويه وتشويش. وهؤلاء يقومون بتحضير أجواء الجريمة ثم يستثمرونها سياسيا. ذلك كله لا يمنع أن يكون القتلة "إسلاميين"؛ فالثورة المضادة في العالم العربي أكثر ذكاء من أن ترسل عناصر استخبارية من بقايا ابن علي لتنفيذ الجرائم، لكنها قادرة على اختراق واستدراج مجموعات إسلامية متطرفة، تماما كما فعلت إسرائيل مع تنظيم أبو نضال، الذي نفذ أقذر علميات الموساد باسم النضال وحماية الثورة الفلسطينية. وفي العراق، تمكنت إيران من اختراق المقاومة العراقية بعناصر متطرفة، خدمت بالنتيجة المشروع الإيراني الطائفي هناك. لقد تمكنت الثورة المضادة من تعطيل قطار الربيع العربي في سورية، ووأدت تجربة التحول في مصر، وهي تطلق العناصر "الحوثية" و"القاعدية" في اليمن، وتعبث في تونس. والرهان هو على الشارع التونسي وحده، القادر على الوعي بالثورة المضادة. والقوى السياسية التونسية تتحمل مسؤولية أخلاقية بعدم الانجرار وراء ردات الفعل وإشاعة أجواء العنف والإرهاب. من حسن حظ تونس وجود مناضل بحجم علي العريض على رأس الحكومة؛ فهو يمتلك من النزاهة والشجاعة والتضحية ما يؤهله لنزع فتيل الفتنة، فمن صبر على قسوة الزنزانة الانفرادية أكثر من عقد، قادر على تحمل قسوة اللحظة التي تعيشها تونس. وقد أعلن العريض غير مرة استعداده لمغادرة المنصب، لكنها مغادرة مشرفة لمصلحة تونس، لا إذعانا للمتآمرين من أيتام ابن علي ومن وراءهم. لن يكون تفجير أمس هو الأخير، وكذلك الاغتيال؛ إذ لن تتوقف الثورة المضادة حتى تدمر دول الربيع العربي بلدا بلدا. لكن ما لا يتوقعه السحرة أن يرتد السحر على الساحر.