سطر واحد في برقية سرية صادرة من السفارة الأميركية في القاهرة لفت انتباهي أكثر من غيره، لأنه يكشف عن معلومة خطيرة، قد تؤدي إذا ما جرى التأكد من صحتها إلى إعادة النظر في معظم الفرضيات المطروحة حول أسباب اغتيال الشهيد محمد محمود الزبيري عام 1965. المعلومة الواردة في البرقية مصدرها مسؤول يمني من المؤيدين للشهيد الزبيري، وتاريخ المعلومة مهم للغاية لأنها جاءت قبل حوالي أسبوعين من اغتيال السياسي اليمني العظيم. ومضمونها أنه تلقى مليوني جنيه استرليني من العاهل السعودي الملك فيصل لدعم تحركه السياسي بعد اختلافه مع السلال.
وإذا ما ربطنا هذه المعلومة بما نعرفه جيداً عن طهارة الشهيد الزبيري وعفة يده، وبغضه للفساد والإفساد، فمعنى ذلك أنه كان يعتزم استغلال المبلغ في تحرك سياسي يخدم أبناء الشعب اليمني، ولكنه في الوقت ذاته كان محاطاً برجال لم يكونوا على نفس المستوى من النقاء، وبالتالي فمن غير المستبعد أن يكون لمن حوله أصابع في اغتياله من أجل الاستفادة الشخصية من تلك الأموال التي لا يعرف مصيرها إلا المحيطون به.
والذي يدعم هذه الفرضية هي حرص الشهيد الزبيري على إبعاد المصالح الشخصية عن الأهداف السياسية السامية. وبالتالي فلم يكن من اليسير على أصحاب الأطماع الدنيوية من المحيطين به أن يستفيدوا من تلك الأموال في حياته لأنه كان أكثر ميلاً إلى التقشف والبساطة، وكان همه الأول والأخير هو إرواء تربة وطنه بقلبه الدامي. وهناك من المحيطين بالزبيري في تلك الفترة رجال مازالوا على قيد الحياة، ويتحتم عليهم نفي هذه المعلومات أو إيضاح ملابسات الأيام الأخيرة في حياة الشهيد.
هذه النقطة هي أهم ما تتضمنه هذه الحلقة، إضافة إلى نقاط أخرى تتعلق باعتقال مترجم يمني في السفارة الأميركية في تعز بغرض التحقيق معه لمعرفة ما كان يدور بين السفارة الأميركية وبعض السياسيين اليمنيين من خصوم الرئيس السلال.
مسؤول يمني من مؤيدي الزبيري (نحمي اسمه) أبلغ مسؤول في السفارة المعلومات التالية: وصلت أخبار من تعز للتو أن الزبيري تسلم مليوني جنيه استرليني مرسلة من الملك فيصل قبل أيام قليلة. يحيى محمد المطاع، السكرتير الأول في سفارة الجمهورية العربية اليمنية في القاهرة انشق عن الجمهوريين وانضم إلى الملكيين في السعودية بعد فراره من القاهرة عبر بيروت. وكان المطاع واحداً من ممثلي الجانب الجمهوري في مؤتمر إركويت العام الماضي.
أكد مصدر يمني في حرض من القادمين للمشاركة في المؤتمر اليمني الوطني لمتابعة اتفاق اركيوت أن الجمهورية العربية المتحدة أفشلت المؤتمر بعد أن أدرك المصريون أن المؤتمر سيدعو بشكل مؤكد إلى انسحاب القوات المصرية من اليمن. التوقيع: باتل
الوثيقة الثانية برقية إلى وزارة الخارجية الأمريكية مصدرها/ السفارة الأمريكية- تعز الموضوع/ تسجيل الحكومة للموظفين المحليين في السفارات الأجنبية: توضيح أثناء النقاشات التي دارت حول مأزق مترجم السفارة في تعز يحيى الديلمي، عبّر مصدر موثوق ورفيع المستوى في مكتب الرئيس السلال عن قناعته بأن سبب ومنشأ اعتقال الديلمي والقرار الجمهوري الخاص بذلك كان على النحو التالي:
لقد علم قائد القوات المصرية في تعز، المقدم صفوت بالمحادثات التي جرت مع زعماء المعارضة النعمان والإرياني وأمر بإلقاء القبض على الديلمي لاستجوابه. وقد أفاد الديلمي بأنه كان يعمل مترجماً فورياً للسيد كلارك القائم بأعمار السفارة، وأنه لا يستطيع الحديث عن النقاشات التي كان يجريها السيد كلارك مع اليمنيين، وعليه فقد قام المقدم صفوت من خلال القيادة العربية في صنعاء بالإيعاز إلى الرئيس السلال بأن يأمر بإلقاء القبض على الديلمي للتحقيق معه. وقد رفض الديلمي الإدلاء بأية معلومات، حيث تم إطلاق سراحه في النهاية. وقد تم احتجاز الديلمي بشكل انفرادي لكنه لم يتعرض للتعذيب أو أي نوع من أنواع التنكيل الوحشي لأن الأساليب التي تعتمدها القاهرة في التحقيق سوف تؤدي إلى حدوث ردود فعل في جميع أنحاء اليمن على مواجهتها. وقد أدى رفض الديلمي الإدلاء بأية معلومات إلى قيام وزير الخارجية عبد القوي حاميم بإصدار أوامره بتسجيل أسماء جميع اليمنيين الذين يعملون في الشركات والقنصليات والبعثات الدبلوماسية الأجنبية، وكان حاميم يهدف من القيام بهذا الإجراء إلى إيقاف عمل الأشخاص الذين تلقوا تعليمهم في الغرب أو يعتبرون مناوئين للقوات المصرية، وهم على وجه الخصوص الديلمي وكذلك أحمد بركات وعبد الله الكرشمي، اللذان يعملا ن في المؤسسة الكويتية، إضافة إلى علي الأبيض الذي يعمل في قنصلية ألمانيا الشرقية (وقد تم اتهام علي الأبيض بسبب تصريحاته المناوئة للقوات المصرية وليس بسبب مجرد عمله مع قنصلية ألمانيا الشرقية).
تعليق: قد يكون سبب الاعتقالات المذكورة آنفاً ناشئ عن قيام علي خودر، أحد اليمنيين الدارسين في الغرب ويعمل مع شركة كندي للمياه في تعز، بزيارة إلى صنعاء مؤخراً، حيث التقى بأصدقائه الذين يعملون في مكتب الرئيس، ولم يقم بزيارة مكتب السفارة في صنعاء لكنه طلب من السفارة أن تقوم بإخفاء خبر سفره إلى أمريكا لتلقي برنامج تدريبي ريثما يغادر اليمن.
وقد كان التعليق الرسمي الوحيد الذي حصل عليه المسؤولون في صنعاء حول القرار الرئاسي الجديد يتمثل في التصريح الذي أدلى به نائب وزير الخارجية سلام والذي يفيد بأنه لم تقم أي حكومة يمنية بإصدار قوانين من هذا النوع، وعليه فإنه ينبغي على الأجانب ألا ينزعجوا من جميع القرارات الجديدة.
كما علق سلام مدافعاً عن ذلك القرار بالقول بأن طبيباً مصرياً يعمل لدى بعثة أمريكية خاصة في اليمن قد جاء إلى السفارة المصرية في صنعاء للحصول على تصريح عمل.
وقد عبر سلام عن اندهاشه لمعرفة أن هذا الإجراء غير معمول به في أي مكان في العالم.
ومن المفارقة أن سلام الذي كان يعتبر قومياً عربياً يبذل جهوداً مخلصة في الدفاع عن المواقف اليمنية والمصرية أمام بريطانيا وألمانيا وإسرائيل وربما الولاياتالمتحدة، كان يعتبر بشكل مؤكد محل شك واتهام. وباعتباره ضمن ثلة من اليمنيين الشباب الدارسين في الغرب فإنه يقال أنه كان يعتبر عميلاً لأمريكا.
وقد كان سلام يتمتع بحماية عبد القوي حاميم وزير الخارجية الذي كان له نفوذ قوي لكنه (أي سلام) كان يتحفظ في إقامة علاقات رسمية واجتماعية مع مسؤولي السفارة الأمريكية لكي يتفادى أي اتهام بأنه مؤيد للأمريكان.
عن القائم بأعمال السفارة كليفورد ج. كوينلان السكرتير الأول في السفارة
بعد أيام من نشر صحيفة "المصدر" لهذه الحلقة من الوثائق الأمريكية، كتب الشاعر والأديب اليمني الدكتور عبدالعزيز المقالح مقالاً في صحيفة الثورة الرسمية يرد فيه على ما جاء في الوثيقة المتعلقة بالشهيد محمد محمود الزبيري. "المصدر أونلاين" يعيد نشر الجزء المتعلق بالوثيقة في المقال:
"تطالعنا صحيفة المصدر منذ أسابيع، بنماذج من وثائق أمريكية، عن أوضاع الوطن في سنوات ما قبل الثورة وبعدها. وفي هذه الوثائق ما يستحق الوقوف عليه، وقراءته بإمعان وبمقتضى حال الظروف التي كانت سائدة، وفيها ما لا يكاد يخرج عن الأخبار العادية والإشاعات التي كان المخبرون يلتقطونها من الشارع ويقدمونها إلى السفارة الأمريكية تبرعاً أو مقابل شيء من المال. وصحيفة المصدر مشكورة على النشر، ومراسلها الأخ منير الماوري أكثر استحقاقاً للشكر لما بذله من جهد في استخراج هذه الوثائق وترجمتها. وإذا كان في بعضها ما يمكن عده من الكفر، فناقل الكفر ليس بكافر وفقاً للقاعدة الفقهية المعروفة.
ومن آخر الكفر المنقول عن الوثائق الأمريكية الخبر المنشور في العدد الأخير (46) من المصدر عن المناضل والشهيد الكبير الأستاذ محمد محمود الزبيري والذي يشير إلى أنه كان قبل استشهاده قد تلقى مليوني جنيه استرليني من جهةٍ خارجية حدّد الخبر هويتها.
وقد جاء ذلك الخبر على لسان أحد عملاء السفارة الأمريكية في تعز في ابريل عام 5691م، فأبرقت به فوراً إلى واشنطن قبل أن تتحرى من مصدره وصحته، ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن بحسن نية أن ناقل الخبر إلى السفارة كان يقصد أن المبلغ المشار إليه تم دفعه لقتلة الشهيد الزبيري لا للشهيد نفسه، وأن خلطاً ما قد حدث في طريقة نقل الخبر، أو أن ذلك الخلط الخاطئ قد جاء من خلال ترجمة خاطئة عكست الموضوع رأساً على عقب، يضاف إلى ذلك أن الجهة الخارجية التي كانت تحارب الثورة وزعماءها وعلى رأسهم الشهيد الزبيري لم تكن تدفع بالاسترليني، وإنما بالذهب وحده، وإذا كانت تلك الجهة تستخدم عملة أجنبية أحياناً فهي الدولار، أما الجهة الوحيدة من الجهات المعادية للثورة والتي ربما كانت تدفع للعملاء بالاسترليني فليست سوى بريطانيا، وهي يومئذٍ كانت تحتل الشطر الجنوبي من الوطن.
إن الخبر الخالي من الصحة مليون بالمئة لم يكن يستحق الالتفات إليه من قريب أو بعيد، وتجاهله كان الأفضل لما يعرفه الناس في هذا الوطن عن نزاهة مطلقة تحلّى بها الشهيد محمد محمود الزبيري، الذي كان وما يزال مضرب المثل في الزهد والطهارة الوطنية والثورية، لكن الخبر بالطريقة التي تم نشره بها وما يمكن أن يتركه من آثار لدى البعض، دعاني إلى هذه الإشارة ولدحض كل زعم يمكن أن يمس الشهيد العظيم أو يقترب من شخصيته وقيمه الأخلاقية، والتي تجلت في سلوكه النادر منذ بداية نضاله إلى وقت استشهاده. وهنا أتذكر ما حدث، عندما تسلم الشهيد الزبيري أول راتب له بعد تسلمه وزارة التربية والتعليم، وكان الراتب يومئذ لا يزيد عن مائتي ريال إلاّ قليلاً، فقد أخذ الشهيد جزءاً من هذا الراتب الضئيل رأى فيه ما يكفي حاجته وأعاد بقية الراتب إلى خزينة الدولة.
وفي ذلك الوقت أيضاً زاره مسؤول كبير إلى منزل أسرته القديم، حيث يقيم، ووجده يجلس على حصيرة فوقها فراش مهلهل، وقديم مصنوع من صوف الأغنام يسمى ب «الفردة»، وقد سارع المسؤول بإرسال عدد من السجاجيد التي كانت في أحد القصور الملكية إلاَّ أن الشهيد الزبيري رفضها، وأعادها في مشهد لا ينسى، فكيف يصح أو يجوز القول بأن إنساناً عظيماً هذا تاريخه وتلك صفاته قد تلقى مبلغاً من جهة خارجية معادية للثورة تحت أي سبب أو لأي غرض، وأن ذلك المبلغ كان سبباً في طمع القتلة فاغتالوه ليفوزوا بالمال كما جاء في الخبر، والحقيقة التي يعرفها الجميع ولا تحتمل أدنى شك، والتي أسفرت عنها التحقيقات مع القتلة أنهم استلموا أموالاً من جهات خارجية معروفة لاغتيال الشهيد وأن مبلغاً آخر دفعته الجهة نفسها لتهريب القتلة من السجن بعد إلقاء القبض عليهم.
وتبقى في هذا الصدد إشارة إلى أن كل العظماء المؤثرين في حياة أوطانهم تتضارب حولهم الآراء وتكثر الإشاعات، وشاعرنا المناضل الأستاذ محمد محمود الزبيري كان بحق واحداً من هؤلاء العظماء المؤثرين الذين اختلفت بشأنهم الآراء، إلاَّ أن أحداً من خصومه أو منافسيه لم يشر يوماً من قريب أو بعيد إلى ذمته المالية أو يشكك في نزاهته وزهده، ولهذا ظل خالداً في ضمير الأجيال".