ماذا يملك الصحفي أو صاحب الرأي أو الباحث غير قلمه؟ هل يملكون سلاحاً سوى قلم يكتبون به وورقة يكتبون عليها؟ ماذا يملكون سوى فكر ورأي يعتقدون بصوابه فيرسلونه إلى الصحيفة لنشرة، الموضوع ليس عبثاً، والكتابة ليست ترفاً، متى يفهم رجال الأمن ذلك؟. إنهم يستطيعون أن يعزفوا أعظم من سمفونية "بيتهوفن" تروق لكل السامعين وتلف حولهم معظم الأطياف وتجيش ورائهم المادحين لكتاباتهم والمعلقين لمواضيعهم. إنهم يستطيعون أن يسيروا على الجدران ويعيشوا بسلام، إنهم يستطيعون أن يتمايلوا حسب الحاجة والطلب وبحنكتهم وبقراءتهم الواسعة يستطيعون أن يجدوا المبرر؟ طبعاً حتى لو كان واهياً .
كما أنهم في النهاية يقولون رأياً، وعلى الجميع أن يحترموا رأيهم وأن يراعوا ما يقولونه وأن يدركوا أن الأفكار والرؤى تختلف لتتفق، وتتلاقح لتصحح، وأن العراك الثقافي والفكري الذي يحدثوه في الغالب يلتقي عند نقاط معينة، وأن هدف الكاتب أو الصحفي هو إظهار الحقيقة أولاً وأخيراً وطرح رأيه بما يظن هو بصوابه، تاركاً حق الرد أو الدفاع قطعاً ليس حق السجن أو التعذيب أو الاختطاف..
إنهم لا يملكون إلا أن يكتبوا لأنهم يجدوا قيمتهم في الكتابة ولذلك لا تجدي معهم كل الوسائل، لا تستطيع أربع جدران أياً كانت بشاعتها أن تثني صاحب مهنة ليست وظيفة عن مهنته خاصة إذا كانت هذه هي مهنة الكتابة، إنها شريان الحياة بالنسبة له، إنها متعته ومعشوقته التي يرى من خلالها الأمان والرضا، وإن كانت في أغلبها طريقاً للخوف والعذاب النفسي والجسدي.
لكن ما يجب أن يدركه أعداء الرأي أن السجن لا يثني العزيمة، وأن المصادرة لن تنهي القول ولن تخرص الألسن، وأن التعذيب النفسي والجسدي يخلق من جديد الكثير من الصحفيين والكتاب الجدد..كما أنهم يجب أن يدركو أنهم لن يستطيعوا أن يسجنوا أو يصادروا حق كل صاحب رأي لأنها سوف تكون علامة فارقة وخطوة ساحقة لوجودهم، لأن التاريخ يسجل كل تجاوز، ويدون كل الأخطاء، وكل خطأ تخطأه السلطة تصيبها بالعمى وتجعل التاريخ بسطوته الكبيرة وقلمه العريض يعصف بالأحبار ليدون كل تجاوز في كل ركن يمكن أن يكتب عليه حتى على أكتاف الرجال، هذا بعد أن يكون قد دون في الأذهان وعبر الحكاوى عن ما حدث للصحفي فلان أو الباحث فلان أو المواطن فلان فتظل الأجيال تحكي عصراً مليء بالإختطاف والسجن لأصحاب الرأي والكلمة، هذا بعد أن يكون قد رسخ في أذهان الأجيال حكايات تسيء وتشوه كل ما هو جميل في حياتهم، وهذا قد ا يثير تساؤلاً لدى أجيال قادمة عن جملة من الإنتهاكات بحق أصحاب الرأي ليحكموا على عصراً لم يعيشوه بأحكام قد لا تنصفه وقد لا يرتضيه هذا النظام.
إن تاريخنا الإسلامي والعربي مليء بهذا النوع من الممارسات القاهرة للقول والرأي والكلمة، هذا إن كنا سوف نطوف على التاريخ أصلاً وإلا فالواقع العربي برمته يحكي لك التصرفات العربية والسلوك العربي الذي يفتقر للمسؤولية، ويلفت نظرك للعشوائية التي تعيشها البلدان بسبب هذا الفقر المدقع للمواطنة والحداثة.
الأكثر إشكالاً في موضوع كهذا أن يطلب من كل صاحب رأي أن يدلي برأيه لصالح أعمال النظام الحاكم وأن يلبس فكراً على المقاس الذي يفصله هو وهي مقاسات ضيقة جداً ضيق الفكر السلطوي العربي الذي يسجن الناس على الرأي والكلمة، فلا يكاد يخرج معارض عربي من سجنه حتى يسجن معارض آخر وكأنهم يريدون أن يقولوا للسجين من هنا مر صاحبك، وهنا بات، في سلسلة متتالية تشخص واقعاً مأزوم وحكومات مأزومة تقتات على حبس الناس ومس كراماتهم.
نحن في اليمن نعيش هذا الواقع ونتعجب منه، نتأسى منه أحياناً، ونضحك أحياناً أخرى، ضحكة الأسى القاتمة التي تبتلع المرارة لترضي البراءة المتأصلة في شعوب دائماً تطمح إلى سلام مع حرية إلى حرية مع إصلاح إلى ديمقراطية مع صدق ونية في التغيير، فما أن نسمع عن مصادرة صحيفة ومحاكمتها ومحاكمة كتابها، حتى نسمع عن سجن صحفي، حتى نسمع عن اعتقال باحث، آخرهم كان شائع وشرف وترقبوا إنا معكم مترقبون.
كُثر هم الكتاب العرب الذين تعرضوا للتعذيب في العالم العربي، كما أنهم كثر الصحفيين والكتاب الذين طارت أجسامهم أشلاء في عبوات ناسفة فأخذت أجسادهم مزعاً إلى القبور، وكثير هم الكتاب الذين تعرضوا لأحكام جائرة بالسجن والتعذيب والإعدام، خاصة بعد أن اختلطت المفاهيم وتنوعت السلطات التي تخاف من الراي والقول ابتداء من السلطة الحاكمة أو الشيخ المتنفذ إلى الشيخ "القاعدي " الغبي الذي يفتي ويقتل ويعلن مسؤوليته عن ما يصنعه وما لا يستطيع صنعه أصلاً، ولأن هذه السلطات الثلاث مستقله وفي بلد واحد كاليمن مثلاً فإن مسألة تحديد المشكلة والتعاطي معها تبدو أكثر تعقيداً وصعوبة خاصة أن هذه السلطات تختلف في أحيان كثيرة على مصالحها ومنهج عيشها إلا أنها تتفق في منهج الكره والعداء والمواجهة بشتى السبل والوسائل لأصحاب الرأي والكلمة، وهذا يغذي لدى المواطن الخائف بطبيعة الحال ولاء مطلق لإحدى هذه السلطات الثلاث لأنها وحدها التي تستطيع أن تنفذ ما تريد دون رادع، ويكون صاحب الرأي مجرد " فضولي " كان عليه أن يسكت ويداري.
في النهاية أقول السجن يصنع صاحب الرأي ويخلقه بعد خلق. يشكله بعد تشكيل، يضيف إليه ولا ينتقص منه.يظهره ولا يخفيه، متى يفهم السجان ذلك ؟ متى يفهم أن صاحب الرأي يناقش ويحاور ولا يُعتدى عليه ولا يُسجن.