يتصرف الحراك الجنوبي حين يدخل أوقاته العصيبة الخاصة على سجيته الأولى، النزَّاعة إلى البدائية كأن ينصب مرجعية قبلية للجنوب ومفتياً شرعياً له. منذ مطلع ديسمبر الحالي والحراك رهن أزمة داخلية تعصف بفصائله المنقسمة وتكاد تطيح بالتحولات التي أحرزها منذ انطلاقته منتصف 2007.
اندلعت شرارة الانقسامات من يافع حيث التقى قادة فصائل وأعلنوا تقرير مستقبل الحراك من خلال ثلاثة قرارات، تتضمن توسيع المجلس الأعلى للحراك عبر هيئة تنفيذية من 36 عضواً وجمعية وطنية (برلمان) من 501 عضو إضافة إلى التوقيع على برنامج الحراك السياسي ونظامه الداخلي وميثاق الشرف الوطني.
كما قرر اللقاء تشكيل سكرتارية تنظيمية للحراك من تسعة أعضاء. وبالرغم من أن لقاء تالياً في يافع اتخذ قرارات أكثر حسماً في الاستفراد بتقرير الشأن الجنوبي إلا أن اللقاء الأول الذي التأم في 28 نوفمبر كان الأكثر إثارة للجدل والانقسام على حد سواء.
فالبيان الصادر عن اللقاء يلقي باللائمة على أحزاب المشترك في استهداف الحراك بنفس القدر من اللوم الملقى على النظام الحاكم قائلاً إن "هناك محاولات مكشوفة وغير مكشوفة من قبل نظام (الاحتلال) وأحزاب المشترك تستهدف تجميد نشاط الحراك وحرف طرقه وتطويقه".
ويضيف أن "نظام صنعاء يحاول إلغاء هوية الجنوب منطلقاً بذلك من برامج الأحزاب ليقيم فوق أشلائه سلسلة مجاميع متناحرة (...) هكذا أخذت مشاريع صنعاء (سلطة ومعارضة) تظهر بقوة على الواقع الجنوبي وبدأت تحركات مكثفة وقوية تستهدف قطف ثمار التضحيات الغالية".
يقول قادة الحراك المعترضون على قرارات يافع إنها صدرت عن جهة لم تعرف بنفسها وزادت أن انتحلت تسمية "المجلس الأعلى للحراك السلمي لتحرير الجنوب" في الوقت الذي نصبت أشخاصاً بدلاً لرؤساء فروع المجلس في محافظات الجنوب. كما أشعرت آخرين ممن لم تستبدلهم برفع قوائم تتضمن أسماء أعضاء الهيئة التنفيذية والجمعية الوطنية مع أنهم لم يبلغوا بالاجتماع في يافع.
إلى ذلك، أسهم إخفاق فصائل الحراك في تنظيم احتجاجات شعبية خلال منافسات بطولة الخليج بعدن وأبين في تغذية الانشقاقات الداخلية وتبادل الاتهامات بشأن من يقف وراء الإخفاق.
وضمن هذا السياق، رد المجلس الأعلى للحراك السلمي على مقررات لقاء يافع مشيراً إلى ذلك العامل.
فقد جاء في بيان للمجلس "كنا وما زلنا نعتقد أن تمرير مثل هذا الحدث الدولي (بطولة الخليج) لا بد من حركة سلمية احتجاجية بحجم القضية الجنوبية ولكننا تفاجأنا بتراجع في التصريحات والتخاذل بالمواقف والبحث عن مسببات وأعذار عند البعض أثناء التنفيذ للبرنامج".
كان المجلس الأعلى للحراك أكبر فصيل في الحراك والأمضى في تبني مواقف متشددة، لكن لقاء يافع ينذر بتفكيكه إلى فصائل صغيرة متنافرة وقد جاءت البداية من قادته المؤيدين لقرارات يافع الذين أبقوا على تسميته وميزوها بإضافة "قوى الاستقلال".
يعتقد قادة الحراك الذين تبنوا لقاء يافع أنهم الفئة الوحيدة ذات النهج الخالص في تبني فصل الجنوب حالياً وما سواهم فسياسيون أفسدتهم الحزبية ويسهمون في تمييع القضية الجنوبية.
وبصرف النظر عما إذا كانت هذه القناعة اتجاهاً ذاتياً أم مرسومة من أطراف أخرى لها أهدافها الخاصة فإن الخط الذي برز على نحو جريء في يافع يبدو تطبيقاً مستعجلاً لرؤية فصيل حراكي في الخارج يطمع في إعادة صياغة الحراك والمراحل التي تليه وفقاً لمضامين وأساليب على إيقاع الماضي.
الدفعة الخارجية مكنت المجتمعين في يافع من عقد نحو خمسة لقاءات متعاقبة خلال نصف شهر لحسم مزيد من القرارات دون الالتفات إلى اعتراضات فصائل الحراك الأخرى التي وصفته بالانقلاب.
ينشط اتجاه يافع الجديد الذي أطلق على نفسه "قوى الاستقلال" بزعامة علي سالم البيض المقيم في ألمانيا وطارق الفضلي سليل السلطنة الفضلية المندثرة، لذلك تتناغم القرارات الصادرة عن الاتجاه مع طريقة تفكير الرجلين؛ الأول بوصفه سياسياً مندفعاً يحتكم لمزاج شديد التقلب، والثاني بوصفه شيخاً قبلياً متعجرفاً يفتقر للياقة السياسيين في تلطيف الاختلاف.
وطبقاً للمسار الذي يهرول إليه فصيل البيض والفضلي، تتخذ "قوى الاستقلال" في اجتماع آخر بيافع في 13 ديسمبر قرارات متخلفة كثيراً عما يطمح إليه الحراك ولو في شقها المعنوي.
اتخذ ذلك الاجتماع 13 قراراً أبرزها اختيار حسن باعوم زعيماً للهيئة التنفيذية إلى جانب طارق الفضلي وتسمية يافع مقراً لقيادة النشاط السياسي والميداني.
وبين القرارات الهامة أيضاً "تشكيل قيادة ميدانية للدفاع عن الحراك السلمي" بزعامة العميد محمد صالح طماح وهي المرة الأولى التي يتبنى فيها فصيل حراكي خيار العمل المسلح.
فالغرض من تشكيل القيادة الميدانية هو الرد على ما يسميه البيان "قوات الاحتلال" ويضيف موضحاً مهامها "تقوم القيادة الميدانية برسم خارطة الحراك الجنوبي الجديدة والعمل على إنضاج الوضع الثوري السلمي في الجنوب".
لكن القرارين الأكثر إثارة، تعيين الشيخ عبدالرب النقيب "مرجعية قبلية للجنوب" وكذا تعيين الشيخ حسين بن شعيب مفتياً شرعياً للحراك.
كان بعث المشيخ القبلي في محافظات الجنوب عقب سيطرة قوات الرئيس علي عبدالله صالح عليها في 1994 واحداً من أنصع الدلالات على طمس الإرث المدني الذي أرساه الحزب الاشتراكي اليمني عبر سنين طويلة هناك.
ولطالما رثى الحراك في جل وثائقه تلك القيم المدنية التي طمسها نظام صالح غير أنه الآن يؤسس لاجتثاثها في الجنوب على نحو بالغ السخرية والاشمئزاز.
إنها الطريقة الخاصة التي ينقلب بها الحراك على نفسه في الوقت الذي يثرثر عن مؤامرة الأحزاب ضده.
هل كان الفصيل الحراكي الجامح المنبثق من يافع بحاجة إلى استدعاء القبلية في شكل المرجعية المتحجر الذي يقترب من القداسة.
بإمكان الجواب على هذا التساؤل أن يوضح ما إذا كانت الخطوات التقهقرية التي اتخذها لقاء يافع قد صدرت عن قناعات حقيقية أو أنها أمليت لخدمة أطراف لا تكترث للحراك في جانبه الشعبي المدني الذي خلقته حاجات ملحة ليس بمقدور السكان في الجنوب التكيف مع ضياعها.
لا مصلحة ملموسة للحراك في تعيين مرجعية قبلية ولم يكن أكثر المتشائمين بشأن مستقبله يتوقع أن يقترن بعد نحو أربعة أعوام على انبعاثه بمرجعية قبلية وشيوخ قبليين وهيئة إفتاء بوصف هذه اللوازم تؤسس لكيان مشبع بالتخلف أكثر من المثال القائم الذي يثور عليه الحراك نفسه.
نزح عبدالرب النقيب خلال حكم الاشتراكي للجنوب إلى المملكة العربية السعودية حيث اكتسب صلات متينة بدوائر الحكم حتى صار مرجعاً للتعريف بمواطنيه القادمين إلى المملكة والحكم عليهم ما إذا كانوا أشخاصاً صالحين يستحقون الإقامة أم موالين لحكومة الاشتراكي قبل أن يعود إلى البلاد مثقلاً بالحنين إلى منزلة رنانة، كالتي منحه إياها اجتماع يافع.
وحتى مع إغفال ماضي النقيب ووضعه الحالي كواحد من الشيوخ الكبار الذين ييممون وجوههم شطر الجوار فإن مضمون القرارات التي اتخذها حراك قوى الاستقلال وطريقة حسمها تشير بوضوح إلى أي مدى يمكن التسليم بيد خارجية تدفع الحراك قسراً إلى خيارات غريبة.
وانسجاماً مع الخيارات الجديدة التي أقرها الحراكيون في يافع، قفز الخطاب الصادر عنهم إلى النيل من الأحزاب وتحميلها نصف المسؤولية عن معاناة الجنوب.
تطور هذا الخطاب عن نواة وضعها الفصيل نفسه في بدايات الحراك وظلت موجهة صوب الحزب الاشتراكي اليمني فانساقت معه بقية الفصائل دون إدراك منها بأنها مستغفلة ومطية وأن منطق الإقصاء سيطالها ذات يوم.
ونال الخطاب المعادي للحزبية من الاشتراكي في اجتماعات يافع الأخيرة على نحو مكثف وموجه لقيادته الحالية وهو ما يفسر اللهجة القوية الجديدة التي استخدمها الحزب في الرد على فصيل البيض والفضلي.
فقد وصف بيان لأمانة الاشتراكي العامة في 9 ديسمبر أصحاب المواقف العدائية الذين أظهروا العداء للحزب في يافع بالمهرجين والمتكسبين من القضية الجنوبية.
وأكد الاشتراكي أنه سيواصل دعم القضية الجنوبية دون الالتفات إلى "أولئك المهرجين والمكتسبين الذين يحاولون الإساءة إلى هذه القضية العادلة وما يصدر عنهم من مواقف مغامرة، تلتقي في نهاية المطاف مع أهداف السلطة".
يفرق الاشتراكي أيضاً بين طرفين في الحراك: طرف يصفه في بيانه بالقوى الحاملة للقضية الجنوبية "بروح وطنية مسؤولة" وذلك الطرف الذي يصدر عنه "مواقف مغامرة".
وباستثناء مستوى العداء للأحزاب في الجنوب خصوصاً اشتراكي والخلاف بشأن الأساليب التنظيمية في النشاط، لا تتباين فصائل الحراك سياسياً إذ أن جميعها ينادي بفصل الجنوب في دولة مستقلة ويستخدم مصطلحات موحدة في التأصيل للقضية الجنوبية لكن كيف تبدو هذه الفصائل الآن على شفا التناحر بالرغم مما يجمعها.
لن يؤدي الاقتصار على المعيار السياسي إلى تفسير هذا الخلاف الذي توسع أخيراً لأن منشأه غير سياسي في الأساس بل يتعين دراسته من منظور اجتماعي مناطقي وطبقي.
فطبقاً لذلك، لم تكن مصادفة أن ترد تشكيلة القيادة التنفيذية والميدانية وصولاً إلى المرجعية القبلية والناطق الرسمي لفصيل "قوى الاستقلال" المنشق من منطقة يافع باستثناء قلة من المتوافقين تماماً مع برنامجه فيما أقصي قادة الحراك المنتمون إلى ردفان والضالع من التشكيلة ولم يكن نصيبهم سوى تكليفهم رفع أسماء الممثلين لمناطقهم في الهيئة التنفيذية والجمعية الوطنية وهو التكليف الذي ورد بصيغة استعلائية وعابرة.
لقد دفع ذلك قادة الحراك في ردفان والضالع إلى رفض قرارات لقاء يافع وعقد لقاءات موازية أفرزت لجنة لاحتواء الانقسام أطلق عليها "لجنة إدارة الأزمة".
ترمز يافع إلى الثراء والبرجماتية فيما اقترنت ردفان والضالع بالفقر والاندفاع الثوري المتجرد من أي حسابات ذات صلة بالمصالح لذلك أراد الأثرياء في يافع حسم مصير الحراك واختزال المسافة الزمنية المطلوبة لتطوره دون الانتظار للمجاميع الفقيرة التي يسهل إيقاظ ماضيها الثوري حين تجد نفسها محرومة من امتيازات باقي المناطق.
ضمن هذا الإطار مثلاً، يحمل الناطق باسم فصيل "قوى الاستقلال" علي جار الله اليافعي على من يصفهم بالحزبيين "الذين ما زالوا يتباكون على الماضي ويريدون أن يرثوه" ولا يتحدث عنهم إلا ب"هؤلاء البسطاء" المجتمعين في "الذنبة" وهي منطقة في ردفان ينتسب إليها القيادي بالحراك ناصر الخبجي .
لا يمكن الارتقاء بصراع الحراك وفقاً لحديث جار الله أكثر مما حوار تنابز يدور بين شخصين بسيطين لا يرى الأول في قادة الحراك كالشنفرى وشلال شائع وناصر الخبجي غير عساكر ملائمين للقتال وتسلم معاشات شهرية منخفضة فيما يرى الثاني في جار الله شخصاً مترفاً يطمع في شراء مزيد من الأراضي داخل مدينة عدن.
حين كانت الفصائل الناشطة في الجنوب قبل الاستقلال وبعده تصعد اختلافاتها، كان بالإمكان تلقي مزيد من المنشورات الموقعة بأسماء كالجبهة القومية وجبهة التحرير أو حزب الشعب والطليعة... أما الآن فلا يجد المجتمعون في يافع للتقليل من معارضيهم غير الإشارة إليهم ب"أصحاب الذنبة" فيرد الأخيرون على "أصحاب يافع".. هذا كاف لإبراز الفرق.