تبدو بلاد السعيدة مرشحة اليوم أكثر من أي وقت مضى للتدهور بشكل مخيف وسريع، باتجاه حرائق جديدة أشد اشتعالاً في الجنوب والشمال، كفيلة بالتهام بقية الآمال المؤجلة باستمرار، لاستقرار البلد المبتلى بجهل أبنائه وفساد قياداته.. ويمكن لعناوين أحداث الأيام الماضية أن تكتب إجابات واضحة للاسئلة التي ستأتي فيما بعد عن الأسباب التي قادت الدولة للانهيار والشعب للاقتتال، لا سمح الله. أغلب اليمنيين اليوم يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً من الآتي، من الغد القريب الذي لا يبشر بخير، في ظل الأوضاع المتفجرة هنا وهناك، وتحمل في طياتها على الدوام أسباب فشل مبادرات الحل أو دعوات الحوار التي يطلقها هذا الجانب أو ذاك. صوت الرصاص هو المرتفع على أي أصوات عاقلة أو مجنونة سواء من داخل السلطة أو من خارجها. ولا يمكن الحوار فضلاً عن توقع حلول جادة، ما لم تهيأ الأوضاع وتتوافر النيات الصادقة للخروج من أزمات البلاد. يمكن المضي إلى أبعد مما سبق في الكلام عن أزمات البلد وحرائقها، ولن نأتي بشيء جديد يذكر، غير أنه يمكن لنا أن نتوقع كيف يأتي الحل على الطريقة اليمنية، وهي طريقة أشار إليها الراحل حميد شحرة "بالعقدة اليزنية"، هو يقول إن تاريخ اليمن مليء بالشواهد التي تؤكد عجز اليمنيين عن حل مشكلاتهم بأنفسهم، ولذلك يلجؤون حين تتفاقم أزماتهم إلى حل من الخارج، أتى من بلاد الفرس في عهد سيف بن ذي يزن، ومن بلاد الحجاز حين أتى الدعام بن ابراهيم بيحيى بن الحسين، وسلمه بلاد همدان ليبدأ هذا الأخير بتأسيس دولته الزيدية، وحين عجزت الجمهورية عن تثبيت أركانها لجأ رجالها إلى المصريين والسعوديين، وقبل حرب 94 كان علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض ينشدان الحل عند الملك حسين في الأردن. شخصياً لا أتمنى أن يتكرر سيناريو الحل الخارجي، وأرجو أن يخيب ظن عابر السبيل عبده عز الدين الذي مر بقريتنا ذات مرة، وظل يردد طوال إقامته في مسجد القرية "الحل دائماً يأتي من الخارج". أقول أتمنى، وأنا أقرأ بيان علي سالم البيض، والبيان المشترك للرئيس الأسبق علي ناصر محمد وحيدر أبو بكر العطاس اللذين دعوا بصورة مباشرة "المنظمات الإقليمية والدولية للقيام بدور ما في اليمن"، وقد يأتي هذا الدور قريباً إن ظلت الأحداث تتصاعد بهذه الوتيرة المخيفة. أقول مع باصرة في حديثه لبرنامج "في كل اتجاه" على قناة السعيدة إن الحل الحقيقي يأتي دائماً من داخل البلد، وكلما تأخر الحل ارتفعت تكلفته، وأرجو أن يتحقق أمل الدكتور سيف العسلي برئيس الجمهورية الذي سيأتي بالقرارات الصعبة ويحل بالتالي مشكلات البلد. وأتفق مع الناس المتفائلين جداً، ومنهم قيادات في اللقاء المشترك بأنه لا يزال بيد رئيس الجمهورية فرصة لحلحلة مشكلات البلد بالدعوة إلى حوار جاد تتوافر له الإرادة السياسية الصادقة، ولا يكتفي بالدعوة إلى الحوار والتسامح ويذهب لممارسة رياضته وكأنه أدى كل اللي عليه. أصحاب القرار في البلاد، وبالذات رئيس الجمهورية الذي نقول إنه الوحيد القادر، بحكم موقعه، على إخراج البلد من أزماتها، غير مستعدين بعد للاعتراف بحجم المشكلات وأن هناك ضرورة ملحة لإشراك الجميع في الحل، حتى وإن كان هؤلاء رجعيين وإماميين، وأولئك مخربين وانفصاليين، هم في نهاية المطاف يمنيون، وعلى من يدير البلد أن يتعامل مع الجميع، بحكم أنهم مواطنون في المقام الأول. لكن لا شيء من هذا يحدث ولذلك تستمر الأزمات في التدهور، يساعدها في ذلك التفكير الرعوي والبدائي، الذي لا يزال يسيطر على سياسة النظام، ومن يستمع لتصريحات المسؤولين ويقرأ الصحف الحكومية يدرك ذلك بكل وضوح.. الآخر في نظرهم ليس سوى مجموعة من المأزومين والحاسدين والمخربين، ولا بد من مواجهتهم بالمؤسسة العسكرية، ظناً منهم أنهم يحمون الوحدة والجمهورية والثورة.. هذا الكلام البليد والمتكرر يجعلهم ينسون أن هذا الآخر هو أغلب الشعب الذي له الحق في الاستفادة من خيرات البلاد وإدارتها أيضاً. يشبه وضع النخبه الحاكمة في البلد نصاً مسرحياً كان استشهد به ذات مرة الكاتب الراحل عبد الوهاب المسيري، ويمكن بقليل من التصرف فيه صياغته على النحو التالي: تدور أحداث المسرحية في إحدى غرف قصر الحاكم وإلى جواره ابنه وأقاربه (رجال السلطة) وبجانبهم أحد الجنود (المؤسسة العسكرية)، وقد اندلع خارج القصر حريق (الحراك الجنوبي ومؤشرات الحرب في صعدة) وبدأ الدخان يدخل الغرفة عبر النافذة، إلا أنهم يجلسون بهدوء ولا يكترثون لشيء. ثم ينشد الجميع ما يشبه افتتاحيات صحيفة الثورة عن المنجزات والأمن والاستقرار في ربوع البلاد. - الأب: وضع البلد مستقر، ها نحن جميعاً نجلس في قصرنا الجميل الهادئ في ارتياح جذل. - الابن: وضعنا العام ممتاز. - الجندي: أو باختصار.. إيجابي. - الأب: وإذا كانت هنا جمرة تهدد بالحريق. - الأم: طفلي سينهض لإطفاء الحريق. - الأب: وإذا اندلعت هنا وهناك حرائق صغيرة. - الأم: سيسرع ابني لإطفائها بالهراوة. - الأب: انهض أيها الجندي إضربها قليلاً. ثم يظل الأب وبقية أفراد الأسرة يسخرون من النار، ويؤكدون قدرتهم على إطفائها، وحين تأكل النيران قدمي الأب يصرخ الطفل: أبي لقد حرقنا الزمن. - الأب: اسكت. - الأم: إن من ينظر حولنا ويراقب، يرى كم أن الأب لا ينطق إلا بالصدق كعادته. - الأب والأم: لقد أثبتنا للنار بشكل واضح من هو الرجل هنا ومن هو الحاكم. - الطفل: ولكن بابا... البيت يحترق. - الأب: لا تشغلنا بالحقائق الحقائق اليوم تقول إن الحرائق الآن في أكثر من مكان داخل البيت اليمني، وقادرة، إن ظلت مشتعلة، على أن تختط لها طرقاً جديدة لمناطق أخرى، ففي كل منطقة ومكان هناك فتيل للاشتعال.. هذا وقت الدعاء إذن، أن ينتبه الأب والأم في ذلك القصر إلى الحريق من حولهم، وأن يسمعا دون مكابرة إلى أصوات التحذير التي لا تتوقف من داخل البلاد وخارجها، علهم ينتبهوا إلى النيران التي من حولهما ويبدأون بإطفائها.. قبل أن يأتي من يطفئها من الخارج، ويصادر عليهما القصر بما فيه!