اخطأ النظام المصري، او ما تبقى منه، عندما اقدم على اغلاق مكتب قناة 'الجزيرة' في القاهرة، ومنع بثها عبر القمر الصناعي 'نايل سات'، معتقدا ان مثل هذا الاجراء سيطيل في عمره، فما يمكن ان يحدث هو العكس تماما، لان المنع سيجعل 'الجزيرة' متحررة من كل الاعتبارات السابقة التي تلتزم بالحد الادنى من الهدنة مع النظام. قناة 'الجزيرة' لم تفجر الثورة الشعبية في تونس، وهي قطعا لم تكن كذلك بالنسبة الى الثورة المشتعلة حاليا في مصر، فكل ما فعلته هو نقل الاحداث بصورة اكثر جرأة وشجاعة من القنوات الاخرى، التي تمثل انظمة عربية لا تقل قمعية وفسادا عن النظام المصري. المحطة 'جاملت' النظام المصري في البداية، وابتعدت عن كل وسائل التحريض، حفاظا على مصالحة هشة حدثت بين امارة قطر وهذا النظام، تحققت في الربع ساعة الاخير، وبالتحديد عندما قام الرئيس المصري بزيارة نادرة الى الدوحة بعد قطيعة استمرت سنوات بسبب عناده، وازدرائه للنظام القطري، وممارسة انواع بشعة من المماحكة السياسية عندما اقام علاقات وثيقة مع المعسكر المتحفظ على سياسات قطر الجريئة ونظامها الجديد، وهو معسكر يضم البحرين والمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة. محطة الجزيرة 'هادنت' النظام المصري، مثلما تهادن حاليا انظمة عربية اخرى، مثل المملكة العربية السعودية وسورية وليبيا سواء بسبب سياسات مهادنة، او في اطار استراتيجية اقليمية املتها حالة الاستقطاب العربية المتفاقمة حاليا، ولكنها في رأينا 'هدنة' مؤقتة، سرعان ما ينفرط عقدها، لان المصالحات العربية تظل شكلية قصيرة الامد، مضافا الى ذلك ان امزجة الحكام العرب سريعة التغيير، يحكمها الانفعال في معظم الاحيان.
البطل الحقيقي الذي اشعل الثورة في مصر، ومن قبلها تونس، هو الجيل الجديد من الشبان في البلدين، جيل الانترنت والفيس بوك والتويتر والاعلام البديل بشكل عام. فهؤلاء هم الذين زودوا الجزيرة بالافلام، وتحول المئات منهم الى مخبرين 'مجاناً' يعملون في خدمة هذه المحطة التي مزقت قناع الصمت والتعتيم في الوطن العربي. 'الجزيرة' ستدخل تاريخ المنطقة من زاويتين، الاولى هي ريادتها الاعلامية واعلاء سقف الحريات التعبيرية، وتكريس المهنية، وخلق جيل جديد من الخبراء والمحللين والمقدمين، والثانية تهميش دور الاعلام الرسمي وادواته ووسائله، وفضح سذاجته المهنية، بحيث بدا هذا الاعلام عاريا بالكامل امام ملايين المشاهدين الذين انفضوا عنه في نهاية المطاف. هذه القناة تستحق التقدير من الشعوب العربية التي ساعدتها في اطاحة الانظمة الدكتاتورية القمعية مثل نظام تونس، وربما قريبا النظام المصري، او الانظمة المرشحة للسقوط في المستقبل القريب للاسباب نفسها. نضع يدنا على قلوبنا ونصلي لاستمرار هذه المحطة، وحفظها والعاملين فيها من اي مكروه، خاصة اننا سمعنا ان الرئيس جورج بوش الابن كان ينوي ارسال صاروخ كروز لتدميرها، اثناء حربه الاجرامية على العراق عام 2003 وناقش ذلك فعلا مع حليفه الآخر توني بلير وشريكه في جرائم حربه.