مصر يمّه يا بهيه يا أم طرحه وجلبيّه الزمن شاب وانت شابّه الزمن راح وانتِ جيّه الآن يحق للشاعر المصري أحمد فؤاد نجم أن يتخيل عروسته مصر في طرحتها البلديّة. يحق للمصري الاعتيادي أن يستمع من جديد لأغاني "مصر" ويفهمها كما يجب. يحق لنانسي عجرم أن تشعر بالزهو والكبرياء لأنها غنّت لمصر. حتى فيروز، لا بد وأنها تشعرُ بطمأنينة فائقة وهي ترى "شط اسكندرية، شط الهوى" وهو يمتلئ بالجماهير الأحرار. مصر الآن تغير هندامها، لغتها، ملامحها، عطرها البلدي. لقد نزعت نفرتيتي عن رأسها طاقية الإخفاء وخرجت إلى العلن الجامح، مليحةً تمشي في دلال، كما يوحي اسمُ نفرتيتي بالهيروغليفية. انتظر أبناء القاهرة "تغريدة البجعة" وهي تموت في الأحياء الشعبية مع أطفال منتصف الليل. انتظروها وهم يشهدونها تفقد كل شيء، تقريباً كل شيء. حتى الباب الحديدي لقبر السيدة أم كلثوم سرقته أيادي الجياع، وربما اللصوص الصغار، في الزمن الذي سبق الثورة الجديدة. انتظروها، واختنقوا بتاريخهم العظيم. بكى شاب قاهري شديد الذكاء، خالد عبدالقادر، وهو يكتب على صفحته في الفيس بوك: والنبي يا جماعة آخر حد فيكو وهو خارج من مصر يبقى يطفي النور!
كانت مصر تصرخ في لوعة قاسية: منكم لله! وكان مبارك يتجاهل ألم الأمة المصرية وخيبتها في لحظة غرق العبارة في البحر، هلاك أكثر من 1300 مواطن مصري بسبب فساد رجال جمال مبارك. كأن حياة المصريين أصبحت فائضة عن الحاجة، لذا فقد حضر مبارك مباراة كرة بعد الغرق بساعات قليلة. كان المعلق الرياضي ينافق ولي نعمته بصوتٍ صاف: وشّك حلو علينا يا ريّس. وكان "وش الريّس" آخر من دفن كل تلك المئات من الأرواح في بحر القلزم. تدور الدنيا، كعادتها، ويبتسم شاب مصري في ميدان التحرير: الآن تذكر مبارك أنه يوجد في هذا البلد شعب. غرقت مصر في الفوضى، المحسوبية، الرشوة، الانتهاكات. احترقت القطارات، وتدخل الأغنياء في السعودية ليغطوا على فجائع المصريين ذوي الضحايا بحفنة من الجنيهات قال مستحقوها إنها وصلتهم منقوصة، وبعد زمن مديد ازدادت الفوضى، اللامعقول أصبح داجناً في شوارع مصر. في لحظةٍ قلق فكّرت أن أكتب: القاهرة على خطى موسكو. موسكو التي، في لحظة تحوّل فارقة، ضخت القتلة واللصوص إلى الشوارِع، وانطلق الرجال الأثرياء يستحوذون على الملكيّة العامة تحت لافتة: الخصخصة، رجال الأعمال. صرخ راسبوتين في العام 1995: إذا أراد يلتسين أن يحصل على جائزة نوبل فعليه أن يفتت ما بقي من الدولة الروسية. وفي مصر، صرخ يوسف شاهين: هي فوضى؟ كانت الإجابة مزيداً من الفوضى. يمر إعلامي مرموق في شوارع القاهرة، فيلمحه مواطن بسيط: أنت فلان؟ يجيبه: نعم. فينطلق المواطن المصري: نفسي أسأل سؤال واحد بس: هيَّ البلد دي أهلها راحوا فين؟ كله قاعد بينهب فيها ولا حد بيحميها. مصر تغيّر القواعد، تنير طريقها. هي أم الدنيا التي لكل الدنيا. في لحظة شديدة الدلالة والقسوة انطلقت جماعة من المثقفين والناشطين السياسيّين إلى مسجد السيدة زينب. كنسوا المسجد ودعوا على مبارك. ينصح الفلكلور المصري كل المظلومين الذين عجز الحق عن الانتصار لحقائقهم بكنس مسجد السيدة زينب قبل الدعاء على الظالم: يا ام العواجيز، استحلفك بالله تجيبي حقّي! النظام يواصل خنق كل شيء بشياكة حد الإرهاب. جون برادلي يكتب في 2008: مصر من الداخل. يقول إن ثورة يوليو، والحكومات العسكرية والأمنية التي تلتها، قضت على كل شيءٍ جميل. لم تعُد مصر كما كانت. في العام 1922م نفيَ أحمد شوقي إلى أسبانيا. بعد ثمانين عاماً من هذا النفي تغرق أرواح المصريين في أمواج البحر المتوسّط أملاً في الوصول إلى أسبانيا، المنفى السابق. إننا نستمع للناشطة نوارة نجم وهي تحتضن مصر: هذا النظام أخرج أسوأ ما فينا. ويتمتم هيكل، معلّقاً على واقعة الجمل "معركة ميدان التحرير": أسوأ الناس يعتدي على أنبل الناس. كانت هذه هي الحكاية منذ الأيام الأولى لثورة يوليو. لقد فجع المصريّون وهم يستمعون لرفاق عبدالناصر عبر الراديو يصفون اللواء محمد نجيب الذي قاد الثورة في أصعب ساعاتها، بعبارات شديدة الخلاعة والتهتك واللامسؤولية. وعندما وصل المصري النبيل محمد البرادعي إلى بلده ليشترك في الثورة تحدّث بلا وجل عن 58 عاماً من القمع والاستبداد وغياب الحريّات. أي عن مصر منذ الثالث والعشرين من يوليو 1952. تساءل علاء الأسواني "لماذا لا يثور المصريّون" وكتب فهمي هويدي عن "خيولنا التي لا تصهل". أطلق جلال أمين سؤاله الشهير: ماذا حدث للمصريّين. اندفع المصريون إلى التدوين، محدثين ظاهرة شديدة التأثير. الجميع يطرح أسئلة، الجميع يشترك في تأليف الإجابات. أما النظام المصري فقد كان يدبّر أمره بليل حالك. حاول أيمن نور أن يحرّك المياه العفنة، فدخل السجن في قضية غير مقنِعَة. تحسس النظام أسباب فوز الإخوان المسلمين ب 20% من مقاعد البرلمان في 2005 فانطلق يدمّر مؤسساتهم المالية دون أن يبالي بحجم الأسر التي ستفقد مصادر دخلها، ولا بما ستخسره الدولة من عائد ضريبي سنوي. في واحدة من مغامراته الطائشة ضد الإخوان أجهض مشروعاً مشتركاً لبعض قيادات الإخوان مع مستثمرين أتراك قدر بنحو 7 مليار جنيه مصري. الأهم بالنسبة للنظام هو أن تمر ترتيبات الورثة بأقل قدر من الضجيج. لقد بدا وكأن كل شيء يجري كما يُراد له. لم تجد صحيفة مصرية من بد سوى أن تفعل أمراً مثيراً. لقد تتبعت التاريخ العائلي لمبارك، ثم كتبت عنواناً مفجعاً: متوسط عمر أسرة مبارك 95 عاماً، علينا أن نستعد ل15 عاماً قادمة. صفّح النظام بنيته وسد ثغراته. قدم خدمات جليلة في قضايا دولية وإقليمية لمصلحة المشروع الأميركي والإسرائيلي، على أمل أن يتستر هؤلاء على فجائعه الداخلية ومصادرته للمستقبل المصري في سرداب العائلة. قال جون برادلي، مؤلف كتاب مصر من الداخل، إن مصر كشفت كل أوراقها وقدمت كل شيء تقريباً لذا فإنها في السياسة الخارجية لا تجد سوى تبنّي الموقف الأميركي والإسرائيلي كما هو. ارتفعت اللوحات في مصر: مصر مبارك. وكادت أن تكون. ولأنها مصر مبارك فإن تحولات الزمن والإناسة كانا أكبر من مصر مبارك، وأقل من مصر المصريّين. انتصرت مصر الناس، وسيهرب مبارَك إلى حيثُ لا مصرَ يهفو لطلّة "وشه الحلو"! وقف البوعزيزي بالمرصاد لكل هذه الترتيبات. هرب بن علي إلى السماء مثل الكذب المحض. تهاوت تحصيناته، وسقطت أسطورة قدرته الخارقة على السيطرة والتحكم. انتصر البوعزيزيون في تونس، فبدأت مصر تتحسس عناصر قوتها وإلهامها. قال رئيس مجلس الشعب المصري معلقاً على حدث إشعال مواطن مصري النار في جسده أمام البرلمان: لا يجوز الانتحار من أجل الابتزاز السياسي. تصريح شديد التفاهة واللامسؤولية: ما الذي سيحصل عليه المواطن المنتحر كمردود لفعل الابتزاز؟ تدخل أحمد أبو الغيط، وزير خارجية مبارك، وتحدّث بطريقته الكاريكاتورية التي تجسّد ملامح مصر مبارك بدقة متناهية: كلام فارغ. يقصد الحديث عن إمكانية أن تشعل النار البوعزيزية حطب القاهرة. إنه يدرك الآن أن الفارغ الوحيد هو أبو الغيط، وزير مصر مبارك، المحاط بحقائق الزمن الجديد الفتّاكة. انطلقت مصر بغريزة بقائها، بطبيعة عناصرها التي تقاوم الاندثار والانقراض. حطمت مسوّدة التوقعات، ودهست جداول التنجيم. إنها العنقاء الرائعة لا بجعة مكّاوي سعيد. انطلقت مصر على أكتاف جيلها الجديد: مصر أم الدنيا. وصفق العالم لمصر بحرارة على نحو لم تسمعه مصر منذ حوالي نصف قرن. عادت مصر إلى الدنيا بزخمها الأسطوري المعروف، بتفوقها اللامتناهي. عادت مصر الحرّة، الجديرة إلى الفعل والتأثير والإلهام لتدل الأعراب على الطريق الصحيح درب الحقيقة، والعدالة والإبداع. دخل المصريّون، كما لم يفعلوا من قبل، في شوارع مصر الثائرة. وعندما اكتملت الملايين، وسالت بأعناق المطيّ الأباطحُ، وصلت شابة مصريّة للتو، داهمها بردُ الثورة، فرفعت لوحة كتبت عليها: آسفة يا وطني، اتأخرت عليك. وفيما يبدو ابتسم لها الوطن الجديد على المدخل الشرقي لميدان التحرير. ربّت على كتفيها: لا عليك، كنتُ في انتظارك منذ زمن. هيّا يا عزيزتي إلى الحق والحرّية.