استعار الرئيس علي عبدالله صالح على مدى أسبوع صفحة من كتاب آخر أئمة الدولة المتوكلية محمد البدر الذي أطاح به الثوار في شمال البلاد عام 1962 ففزع إلى مناطق القبائل يستميلها ويوزع عليها المال لمساعدته في استعادة الحكم. اقتفى صالح الطرق التي سلكها البدر من صنعاء إلى حجة فقفلة عذر ومناطق عمران في تجسيد للنظرية القائلة إن التاريخ يكرر نفسه.
لم يسقط حكم صالح بعد لكن أجواء الهلع تتملكه على وقع هدير غير مسبوق لجيل شاب من اليمنيين، يهتف في تعز فيأتيه الصدى من عدنوصنعاء مردداً نغمة موحدة. الشعب يريد إسقاط النظام، وهذا يفزع الدكتاتور الرابض بأمان على عرش شيده من أحلام هؤلاء ونفطهم ومكابداتهم اليومية. يهتف الفقراء وطلاب الجامعات في كبريات المدن ضد الرئيس وتقبل المعارضة بمعاودة الحوار الذي كان أوقفه غير أنه يدير ظهره لكل هؤلاء ويلجأ إلى القبائل ليحرض رجالها ضد قسم آخر من السكان مثيراً العصبيات الطائفية والمناطقية. وذهب النظام إلى أبعد من ذلك بتسليط عصابات مسلحة لمهاجمة المتظاهرين في صنعاء بالبنادق الرشاشة والأسلحة البيضاء والقنابل في تعز حيث سقط قتيل وأصيب نحو 70 معتصماً. أما في عدن فقتل المتظاهرين عمل سهل لا يحتاج إلى التغطية عليه بأزياء البلاطجة ومناوشاتهم. لقد واجه المتظاهرون أسبوعاً قاسياً في عدن حيث سقط قرابة ثمانية قتلى وعشرات الجرحى برصاص قوى الأمن في قمع غير مسبوق لإخضاع المدنية لحالة السكون التي تفرضها السلطات منذ أربع سنوات وأفلحت في تكريسها مع فصائل الحراك، لكن الشبان المتحررين انبعثوا فجأة من حيث لم تحتسب السلطات. بعد أسبوع واحد من انطلاق المظاهرات في تعزوصنعاء، توشك ملامح انتفاضة اليمنيين على حكم الرئيس صالح أن تكتمل بانتشار الاحتجاجات الشعبية في مختلف محافظات البلاد تحت هدف واحد عنوانه إسقاط النظام. مثل توحد اليمنيين في الشمال والجنوب على الإطاحة بالنظام ضربة موجعة للأخير بعد سنين من التنافر النفسي والاجتماعي واقتناع المواطنين في الجنوب بأن الانفصال في دولة مستقلة هو الحل لمعاناتهم القائمة منذ حرب 1994. لكن مع انتفاضة اليمنيين ذات الغاية الموحدة، اتضح أن إسقاط نظام صالح هو العلاج الملائم للوحدة الوطنية وتضميد جراح السكان في أرجاء البلد فضلاً عن جبر الانكسارات التي اقترنت بالهوية اليمنية منذ 33 عاماً. طغى هدف إسقاط النظام على كل ما عداه من الأهداف الجانبية. وحين هتفت طلائع الشبان في عدن والضالع ولحج بسقوط الغريم الحقيقي، انحسرت موجة النداءات بفصل مناطق الجنوب والعودة إلى ما قبل الوحدة في 1990 وخفتت شعارات الفريق المنادي بذلك. حدث هذا التحول طوعاً وعلى نحو آلي دون الحاجة لنصب سواري الأعلام العملاقة وطبع الأعلام الوطنية على قمصان تلاميذ الابتدائية والإعدادية أو ضرب مناطق المدنيين في الجنوب بالمدفعية لجلبهم على الوطنية التي تتصدر القيم المشمولة بالتحريف خلال عهد علي عبدالله صالح. يتصل الأمر هنا بالتشارك الوجداني لدى السكان وشعور مواطني الجنوب بأن قضيتهم تلقى صدى واهتماماً عند مواطني المناطق الشمالية. وقد جاء موقف الزعماء الجنوبيين علي ناصر محمد وحيدر العطاس ومحمد علي أحمد وصالح عبيد أحمد من الانتفاضة الراهنة ليثبت إمكانية أن تشكل هذه الانتفاضة حلاً جذرياً للقضية الجنوبية. فللمرة الأولى يتحدث بيان للمعارضين الأربعة المقيمين في الخارج عن عدنوصنعاءوتعز والمكلا بصيغة واحدة. ويذهب البيان إلى أبعد من ذلك قائلاً إن "صنعاء وإن طال الزمن فهي بوابة النصر؛ ليس لانتصار القضية الجنوبية العادلة فحسب وإنما لاسترداد إرادة الشعب المغتصبة في الشمال والجنوب". يدعو البيان أيضاً كل السكان إلى "توحيد النضال" في الشمال والجنوب.
والحديث عن أن الإطاحة بالنظام الحاكم ستوحد اليمنيين لا ينبغي حمله على تلك اللحظات العاطفية التي تتلاقى فيها هتافات المواطنين الموحدة وتولد شفاء مؤقتاً لغليل الجنوبيين المطالبين بحقهم في الحكم والثروة.
ينطلق الحديث بهذه الصيغة إلى ما بعد إسقاط النظام.. إن ذلك يعني إمكانية صياغة الوحدة على أسس عادلة واستراتيجية وحل القضية الجنوبية حلاً مرضياً لأطراف الوحدة كلها. لذلك بدا جلياً كيف أن التفاف المواطنين في مركز البلاد وأطرافها حول هدف استخلاص اليمن من قبضة الرئيس صالح أصابه ورجالات نظامه بالتخبط إلى حد المس بالتركيبة الاجتماعية والوطنية. ففي الوقت الذي كان الرئيس يتنقل بين القبائل لتخويفها من الحكم الذي سيخلف نظامه في حال سقوطه، كانت العصابات المسلحة الموكول إليها مهاجمة المتظاهرين بصنعاء ترفع شعارات محقرة لقسم كبير من السكان.
وقال متظاهرون وشهود إن أفراد العصابات هتفوا في وجه المتظاهرين من أجل إسقاط النظام "ارحلوا من بلادنا يا براغلة" في إشارة إلى الطلاب والنشطاء المحتجين الذين ينتمي كثيرون منهم إلى محافظة تعز. حتى الرئيس نفسه، تردد عن كثيرين أنه تحدث إلى رجال القبائل الذين التقاهم بنفس اللهجة وزاد أن أشرك "الجنوبيين الاشتراكيين" مع "البراغلة" ليهدد القبائل بأن هؤلاء سيحكمونها إذا لم تدعم نظامه في وجه الرفض الشعبي. لكن هذا التصرف اليائس كان جيداً ليمتن وحدة المتظاهرين في صنعاء ممن ينتمون إلى مناطق مختلفة وليشر بدقة إلى مصدر الانقسامات الاجتماعية والوطنية.
من جهة أخرى، هو يسلط الضوء على الأكذوبة الكبيرة التي ظل الحكام العرب يرددونها طيلة سني حكمهم عن رعايتهم لوحدة شعوبهم والتهديد بانفراطها في حال ذهبوا. كان معظم المواطنين مؤمنين بزيف ذلك المنطق وديماجوجيته غير أن المجاهرة بنسف وحدة المجتمع وفقاً للخطاب النظامي مؤخراً، يتيح للعامة معرفة حقيقة جديدة عن طبيعة الحكم القائم. يتلاقى الوعيد الرئاسي في اليمن بتمزيق البلاد مع نظيره في ليبيا إضافة إلى أن النظامين يشكلان أقبح الدكتاتوريات العربية وأغباها على الإطلاق. هدد سيف الإسلام القذافي يوم الأحد بأن ليبيا ستنقسم إلى قطع صغيرة ويتقاتل مواطنوها حتى آخر طلقة إذا أسقطت الثورة الحالية نظام والده العقيد معمر القذافي.
وهدد الرئيس صالح قبل أشهر بأن اليمنيين سيتقاتلون من نافذة إلى أخرى في حال نال المواطنون في الجنوب ما ينادون به. هذا يكشف أن الاستقرار الوطني لا يعني لمعظم الأنظمة العربية سوى خلق بيئة ممهدة وآمنة لكرسي الحكم وقد ظهر ذلك جلياً في قتل المتظاهرين المسالمين في تونس ومصر خلال أيام الثورتين هناك، ويحدث حالياً هنا. فضلاً عن ذلك، يجري قتل المتظاهرين في ليبيا بفاشية متوحشة لم يكن بالإمكان تخيل حدوثها في الألفية الثالثة. سيفضي الحديث عن أوجه التشابه بين النظامين إلى استخلاص كيف أفاد كلاهما من الوحدة: تحمس القذافي قبل سنوات لتوحيد إفريقيا وتأسيس "الولاياتالمتحدة الإفريقية" على غرار الولاياتالمتحدة الأميركية، وفي نهاية المطاف انحصرت هذه الفكرة في جلب مرتزقة أفارقة لقتل مواطني ليبيا المحتجين. وأكثر من القذافي، يتغنى صالح بالوحدة اليمنية ناسباً فضلها إليه إلا أن التقرير الذي أصدرته لجنة حكومية برئاسة الوزيرين صالح باصرة وعبدالقادر هلال أفادا قبل عامين أن 16 مسؤولاً جلهم على قرابة بالرئيس هم من سطوا على أراضي دولة شكلت الشق الثاني لشخصية الوحدة. والسبت الماضي أيضاً دخل الرئيس صالح في الحالة القذافية القائمة على الاستخفاف بمدارك الآخرين واستغفال عقولهم إذ هون من شأن عشرات الآلاف من المتظاهرين لإسقاطه ووصفهم ببلاطجة مستأجرين "لن يمشي كلامهم" في إساءة لمواطنيه أشد من وصف الرئيس المصري الراحل أنور السادات لمتظاهري الخبز في 1977 ب"الحرامية". وصم الرئيس المتظاهرين بالبلاطجة بدلاً من أن يعد بمعالجة أمر بلاطجته الذين يمولهم من ضرائب المواطنين ودخلهم القومي وينشرهم لمهاجمة المتظاهرين.
يبدو النظام المصري المخلوع بزعامة حسني مبارك أكثر رشداً من النظام اليمني فعقب هجمات البلاطجة الدامية على المتظاهرين في ميدان التحرير بالقاهرة، شعر النظام بمدى الانحدار الذي هوى إليه فأوقف نشاطهم متعهداً بالتحقيق في هجماتهم. حتى مع الاعتقاد بأن تعهد رئيس الحكومة المصرية أحمد شفيق بالتحقيق في هجمات "البلاطجة" هو ذر للرماد في العيون غير أن ذلك التعهد يكشف عن إدراك الحكومة لمدى الإساءة التي لحقت بالشخصية المصرية التي تجسدت عبر الإعلام العالمي في مظهر البلاطجة بالرغم من أنه كان مظهراً مرتباً إلى حد ما. أما نظام صالح فيمضي في الإساءة للشخصية اليمنية إلى أبعد مدى ممكن من خلال مظاهر بلاطجته المقززة وهم يصولون في الشوارع بهيئاتهم الرثة وسيقانهم المكشوفة التي شمروا عنها ملابسهم المتسخة.
يخشى أن تولد تلك المظاهر المسيئة للتمدن إضافة إلى المشهد المتخلف في ميدان التحرير قناعات جديدة بأن اختيار صنعاء عاصمة للجمهورية الموحدة في 1990 كان خطأ حضارياً بصرف النظر عن منزلة صنعاء التاريخية. لكن في مقابل صور دجل لئيمة كمحاولات شق البناء الاجتماعي ومظاهر العصابات النظامية تبرز حقيقية كبيرة لا يشوبها هراء: اليمنيون شرعوا في استخلاص اليمن من قبضة الرئيس.
إنها المهمة التاريخية الكبيرة.. ولكي ترتخي القبضة، عليهم تكثيف الضغط.