أنا عتريس يا ولاد الدهاشنه، ومحدّش قدّي. هكذا يتحدث صالح هذه الأيام لجماعات منتقاة من مريديه. ما لم يعلمه صالح هو أن بلطجة عتريس في فيلم "شيء من الخوف" لم تمنع سقوطه في آخر الفيلم. فعندما أراد عتريس أن يستحوذ على "فؤاده" رغماً عن حبيبها وأهلها خرج أبناء القرية الضعفاء أخيراً في حشد بديع، وقد ركلوا خوفهم إلى الأبد، وهم يرددون: زواج عتريس من فؤاده باطل، وسقط عتريس. هذه قصة مألوفة ويمكن التنبؤ بتفاصيلها وصولاً إلى الخواتيم بأقل قدر من التفكير والنباهة. إنها من محفوظات كل كتب التاريخ لدى كل الأمم. ولكلّ أمة صورة خاصة بها، ولدينا عتريسنا الخاص، نحفظه عن ظهر قلب ونكاد نصرخ كما فعل طفل قديم مع ملك ضال: إني أرى الملك عارياً. يوم من أيام صالح، بدأ حياته بدم تعز، واختتمها بدم تعِز. بدأها بمشائخ تعز في المذبحة الشهيرة -قدمت أسرتي اثنين منهم- وها هو يختتم أيامه بدم غزير يجري في مدينة تعز. وهي المدينة التي علمته كيف يلبس البنطلون لأول مرّة في حياته. وضعته على العرش قبل ثلاثين عاماً، وقرّرت أخيراً: كما بدأنا أول خلق نعيده. كاليغولا المتوحّش، الجبان. جمع "شوية" مريدين البارحة، وخاطبهم: سأصمد كما صمد عيبان وظفار. هذه المرّة سيصمد لأنه يواجه مواطنين عزلاً. شجاع، عريض المنكعين، كث الشارب، شلولح. أما عندما واجه الرصاص، عديد مرات، فلم يكن يصمد كعيبان ونقم غير النجم اليمني الكبير: علي محسن الأحمر. وهذه هي خطيئة علي محسن الكُبرى. كم هو قاس ومذهل، سيدي الجنرال، أن تكون خطيئتك بحجم "علي عبدالله صالح"! صالح لا يعرفنا، ولا نعرفه. عندما جئتُ أنا إلى الدنيا كان صالح قد أتم عامين ودخل في الثالث، في الرئاسة. قرأت وتعلُمت ووعيت وعددت اللغات والتخصصات، وصالح لا يزال يجهل الفرق بين التي والذي، ولم ولن، وهذه وهذا. أنا لا أتحدث عن نفسي، أرجوكم، أنا أتحدث عن صالح. ليس أنا فقط، بل مئات الآلاف من الجيل اليمني الجديد الذين اطلعوا على معارف العالم وعلومه وأسقط في أيديهم: من أي غارٍ جاءنا هذا الذي لا شيء. الجيل الجديد الذي يواجه صالح الآن في الميادين هو جيل لا يحترم صالح، لأنه يقيس صالحاً بمعايير العصر الجديد. جيل خرج من المدارس والجامعات يجري عمليات منطقية ورياضية تنتمي إلى الأزمنة الجديدة. هذا الجيل يسخر من صورة صالح وهو يركب الحصان، أو يلعب بلياردو. الجيل الذي يريد أن يرى في الرئيس مديراً لا قائداً، وموظفاً لا زعيماً. هو، أي الجيل، يدرك تماماً أن صالح ليس أكثر من كتلة عضلات وأن البلدان لا تبنى بالعضلات بل بالعقول. وبالنسبة لصالح فقد عانى كثيرا وهو يحاول أن يقنع هذا الجيل بأنه يملك العقل الذي يحتاجه اليمن، لكنه سقط، وضمرت في آخر المشوار عضلاته.
تجاوز الزمن صالح 33 مرّة. ففي أحسن ظروف وامتيازات صالح فإنه لم يكن يصلح سوى لسنة واحدة. أما في أسوأ حالاته فهو كما قال عنه عبدالرحمن الأكوع، أمين العاصمة، أمام مجموعة من الطلبة اليمنيين في القاهرة، أيام الغضب وإعادة توزيع الثروات: مشكلة اليمن تكمن في أن الرئيس علي عبدالله صالح لا ينفع حتى لإدارة دكّان صغير. بالمناسبة: أتحدى الأكوع أن ينكر هذه الواقعة! ومع ذلك فأنا أعتقد أنه سينكر، لأن الذي يقود مأجورين في الليل ويدفعهم لكي يقتلوا شباباً مثل الورد، لم يرتكبوا من الخطيئة مقدار رأس ذبابة، سيفعل أموراً هي أسوأ من إنكار حديث! قال الشباب اليمني الجديد: سنقتحم القصر الجمهوري. وفي لحظة ما اقتربوا من مبنى المحافظة في مدينة تعز فقتلهم علي عبدالله صالح وكتائبه. أراد أن يقول لمن لم يمت منهم: تخيلوا الآن تكلفة اقتحام القصر الجمهوري؟ لكن كل هذا حدث بالفعل، وفي أكثر من بلد، ولم يحُل دون هروب نيرون، مطموس العينين بلا وجهة ولا يقين.
صالح لم يعُد الآن يمثل غير تلك الشبكة النفعية التي أمدها بالضوء وأمدته بالحياة. يعبّر، وحسب، عن جماعة من الخارجين عن القانون من إعلاميين ومشائخ وعسكريين وساسة ورجال أعمال. جماعة من الخارجين عن القانون والضمير العام، من الذين أثروا بلا مهارة واغتنوا بلا تعب ولبسوا الكارفته وركبوا البورش ولم يسمعوا في حياتهم ولو لمرة واحدة عن قوانين نيوتن في الحركة. قوانين مين يا ابن الغفوري؟ آسف، أقصد: لم يسمعوا باسم نيوتن من الأساس. هؤلاء هم من يسميهم صالح أكثرية. وهم بكل تأكيد، أقسم على ذلك، لن يكونوا أكثرية لأن الرسول الكريم علمنا: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". وهم مجموعة من الضلالات التقت حول الضلال الكبير، فأصبح أفضلهم مثل الكوز مجخّياً: لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا. انظروا إلى من جمعتهم الثورة، لقد أدخلت في معيتها كل الطاقات النظيفة: من عامل الحراج، إلى الأستاذ الجامعي، ومن الجنرال إلى المقوّت، ومن الفنّان إلى الشيخ. هذه ليست مقابلات بين نقائض، بل وجهات الثورة في بلدي: كل بلدي، بكل إنسانها بلا استثناء ولا امتياز. كلُنا عتّالون من أجلك يا بلدي. يحارب صالح في الشوط الأخير. يضرب بسيفه يمنة ويسرة. يقتُل، ويصيب ليس لأنه بارِع في المنازلة، بل لأن من يقتلهم هم أهل بيته، الذين ينظرون إلى الدم بقداسة العارِف، ويتعاملون مع الروح بنباهة الصوفي الطاهر. سيصاب بالإرهاق، وسيسقط. وستنهار معه كل تلك الشبكة الشائكة. في الساعة تلك لن يمتلك أحد الحق في أن يغفر نيابة عن الكُل. سيجري التاريخ بصيرورته القاسية، وسيقول كلاماً كثيراً، ومع ذلك فلن يكشف من الحقائق عن هذا المخلوق أكثر فداحة مما ندركه الآن. ولا يزال صوت أبناء القرية يجلجل في سماء الدنيا الجديدة: زواج عتريس من فؤاده باااااطل. المصدر أونلاين