الآن، وأكثر من أي وقت مضى، ينجلي المستور في أزمة صعدة، ولم يتبق في خباياها ما يمكن اعتباره سراً.. وكما كان السيف قديماً أصدق إنباءً من الكتب يكون اليوم في الشرر المتطاير من احتكاك أحفاده القول الفصل، وبدوران الحرب السادسة في مواجهة الدولة لتمرد الحوثي لم يعد من الخائضين في هذه الفتنة من لم يذكر اسمه – وبالبنط العريض- على "بوستر" مهرجانها الأخير. "قتال عنيف في شمال الشمال بين الجيش والحوثيين"!! على هذه الشاكلة يتبدى عنوان رواية الحرب في حال اعتماد لغة مجردة إلا من الأحداث ذاتها، غير أن البحث في جوهر الوقائع استجلاءً للمقاصد والأهداف في كينونتها الظاهرة وتموضعها الحسي يفضي بتلقائية سريعة إلى وسم العنوان – إياه- بالسطحية والسذاجة، إن لم يكن المخادعة والمخاتلة، فلا الحرب بذات الاسم، وطرفاها ليسا على ذلك التوصيف، وفوق هذا فأحدهما – على الأقل- أكثر شيء شبهاً بلاعب كرة محترف يؤدي دوره أجيراً في نادٍ يتقاسمه العديد من الشركاء.
استقرار المسمى والهدف ربما لم يزل عبدالملك الحوثي في رحلة البحث عن اسم جامع لأتباعه محتاراً بين "جماعة الشعار" كما أفصح ذات مرة، أو "المجاهدين" كما هو الشائع في مخاطبة أنصاره لبعضهم البعض، أو "الحوثيين" كما استقرت عليه لغة الإعلام حديثاً.. ومع كل ذلك فإن مفردة "التمرد" في وسم ما هو عليه وجماعته هي أصدق الصفات وألطفها معاً، وبما أنه لا يمكن الفصل في حالات كثيرة بين التمرد والعديد من صور التخريب والإرهاب كلازمة لمعطى العنف في سلوكيات المتمردين فإن مزاعم الحوثي دفاعه عن النفس في خوضه للحرب، لا فاعلاً فيها ابتداءً، تتهاوى أمام تجليات حاكمية سلطته التي استحضر لتأكيدها ميدانياً أهم ما في الدولة المستقلة من مقومات، سواء من خلال استحداثه لشرطة الضبط القضائي والمحاكم والسجون ونقاط التفتيش فيما يسيطر عليه من أرض، أو سعيه الحثيث للتوسع بمصاحبة تثبيت تلك المقومات ذاتها.
وبعد التأكد من صدق التسمية، أو التوصيف، يأتي التساؤل عن المغزى، إذ أن التمرد لذاته يستحيل أن يكون هدفاً إلا على المنتحر الذي يساوم بحياته في مقابل شهرة دوي السقوط، وآمال الحوثية – كما أصّل لها حسين بدر الدين- في استحقاق سيطرة الملك ونفوذ الحكم أبعد من أن تقاس بهذه الغاية، ومن ثم فإن هدف تمرد الحوثي – وهو الذي ما انفك ينازع الدولة في كثير من مناطق صعدة وسواها صلاحياتها حدّ إقصائها في الغالب - يتحدد في الانقضاض على النظام القائم ابتداءً باقتطاع صعدة، باعتبارها نواة – أو منطلقاً- لوجود جديد قد يأخذ شكل إمامة آل حميدالدين استكمالاً للسلسلة التي قطعتها ثورة26سبتمبر، أو ولاية الفقيه نيابة عن الإمام الغائب، أو حتى نظام طالبان مع فارق الايديولوجيا في النزعة السلالية ليس أكثر..
الارتهان: المفارقة الأغرب! ثم ماذا بعد؟ إذ أن تمرد الحوثي لا يمكن أن يكون في كل ذلك بمفرده أو من تلقاء نفسه، وعلى جواز التسليم جدلاً بمحلية نشأة الفتنة في بداياتها الأولى مجردة عن أية إملاءات خارجية فإن سيرورة التمرد على مدى السنوات الخمس الماضية أسقطت عنه إمكانية إخفاء ميوله لما وراء الحدود، ليتكشّف تباعاً ارتباطه بقوى في الخارج يدين لها بتنفيذ مخططات يشترك وإياها في ذات الأهداف، بالإضافة إلى تكفلها بدعمه وتجهيزه على الهيئة التي يتطلب الظهور بها من تناط به مهمة شغل الدور المحوري في لعبة صراع، بقدر ما يأخذ أبعاداً إقليمية ودولية، فإنه لا يستبعد المراهنة على استنبات جذور الصراع العام (الدولي) في الخاص (المحلي) من خلال تكريس التباينات الأثنية دينياً وقبلياً وسياسياً..
وبشيء من التوضيح فإن استغلال تمرد الحوثي لغايات ثأرية انتقامية – قد لا يبلغ هدفها حد الإطاحة بالنظام باعتباره لديها صعب المنال وإنما إضعافه وإقلاقه- ليس بالأمر المستبعد من بعض رجالات آل حميد الدين وقادة انفصال جنوب اليمن عن شمالها القابعين في الجوار، أو من كان منهم - مع ولم يزل أو بدونها- لجامع بين الفريقين على أساس الخصومة. أما الأخطر من كل ذلك فإن المخاوف العربية من تصدير الثورة الإيرانية التي لم يفلح الزمن في تهدئتها أوضح في حضورها من أن توضح، والغريب في هذا الصدد أن فاعلية التدخل الإيراني في أزمة صعدة لا يمكن لها أن تبرئ الجار العربي المفترض تضرره من استغلالها باتجاه تضخيم البعبع من خلال تعهد نواته بالدعم والرعاية الذين قد يأخذا – في أسوأ الأحوال - مضمون أن الضربة التي لا تقصم ظهرك تقويك، ودون تفهم كثيرين لهذه المفارقة العديد من الشبه، ولكنها في دلائل الواقع على وضوح الشمس، إذ أن الإفادة من العدو بالالتفاف على أهدافه - علم أم لم يعلم- واحدة من ثوابت السياسة الخارجية بين مركزي صراع النفوذ الإقليمي فارسياً وعربياً!!
السلطة وصور الحشد! هكذا يبدو تمرد الحوثي من التسمية مروراً بالهدف وحتى وجهة ارتهانه للخارج، الذي لا يعدو معها ممثلاً تقليدياً يومي له بالدور من خلف الكواليس محترفون كبار. وبعيداً عن ما قد يحدثه خارج حدود الوطن من أتراح لقوم وأفراح لآخرين فإن الدولة اليمنية – الحكومة والشعب- التي يرفض الإقرار بسيادتها على مناطق استطالة وجوده المسلح هي المعنية بتمرده المكتوية بشرره، وبالقدر ذاته المسئولة عن إخماد ناره بما لا يبقيها كجمر يتوقد تحت الرماد.
وفي السياق يبدو أن الدولة قد أجمعت على أمر لا رجعة فيه، إذ ليس ثمة ما يلوح في الأفق إلا خيار الحسم.. وما بين موقعه في ميدان الحرب كقائد للقوات المسلحة، وسلطاته الرئاسية فوق الكرسي أو على المنصة قال الرئيس صالح كلمته غير مرة، لكن الوصول إلى تأكيد مدلولها أو تحقيقه لم يقتصر على اتخاذ مسارات قوة الجيش وعتاده الحربي، ففي توليفة السلطة من يرى في الاستنجاد بالقبيلة عاملاً لا يستحسن تجاهله.
وجرياً على حقيقة أن المؤشرات لا تجرد – نظرياً- هذه الحرب السادسة من مفردة الأخيرة يأتي اقتران التنظير بالعمل اللذين تحضر معهما كل صور الحشد الكلي باتجاه حسم لم تدع الدولة لإدراكه شيئاً من متطلبات دعمها في هذا السبيل إلا وسعت إليه أو رحبت به.
وفي استكمال ألوان "بوستر" العرض الأخير يطل القبائل برؤوسهم.. الشيخ صادق الأحمر على رأس قبيلة "حاشد" يليه الشيخ عبد العزيز الشايف على قمة " بكيل" يعلنان اصطفاف القبيلة إلى جانب الدولة في حربها على الحوثي، وفي الأمر ما يدعو للتأمل إذ أن ما يظهر من توافق بين "حاشد" و"بكيل" على مستوى القمة أو القمم في استعداء تمرد الحوثي كخيار جامع لا ينفي عن الاضطراب القائم بينهما - في أكثر من مفصل وعلى مستوى القواعد - إمكانية أن ينبئ عن استعادة صراعات متقادمة بهدف تصفية حسابات ليس فيها ثمة فرق بين سلوك أي من وجهتي الدولة أو تمرد الحوثي كباعث أو غطاء ليس إلا!! فهل ستدرك السلطة من تجربة خمسة حروب أن الاكتفاء من القبائل بالدعم المعنوي أجدى من معالجة تبعات الاستقواء بهم في حرب لن يشاركوا فيها متجردين عن ذهنية الفيد والثأر والانتقام؟!