عقب إرتكابه لعشرات المجازر الدامية بحق المعتصمين العُزل، لم يدخر النظام الصالحي الحاكم جهداً لطمس ملامح جرائمة المنظمة التي يندى لها جبين الإنسانية. حماية القتلة وإخفاؤهم، لايبدو إجراء الطمس الوحيد، إذ ثمة اجراءات أخرى سعى النظام لتكريسها بالتقادم في محاولة للتغطية على جرائمة الدموية ذات البشاعة التي لاتوصف.
تعطيل أجهزة العدالة، إجراء جديد يحاول النظام المتداعي من خلاله تمرير تلك الجرائم والحيلولة دون ان تطال مرتكبيها يد العقاب العاجلة.
تحت بند التعطيل، بوسعنا إدراج قرار الإقالة الصادر بحق الدكتور عبدالله العلفي الذي قضى بتنحيته من منصبه كنائب عام للجمهورية.
يدرك النظام أن لاسبيل لمنع العدالة من التحقق على المدى المنظور، غير انه –رغم هذا الادراك- يبدو مستغرقاً باستماتة لافته في إجراءات طمس الجرائم ظناً منه بأن ذلك يمكن ان يعزز الأمل المنعدم في تغييب العدالة وإثناءها عن التحقق ذات يوم.
تتوالى جرائمة الدامية في حق المعتصمين العزل بذات النسق التسارعي الذي تمضي فيه اجراءات حجب العدالة. يظن النظام ان تشريع العفو المُضمن في المبادرة الخليجية سيمنحه مطلق الحماية، وسيساعده في تكريس واقع الطمس الذي يناضل لإنجازه، غير انه يُغفل ممكنات تحول ظنه هذا إلى إثم بائن..
فجرائم الإبادة لاتسقط بالتقادم، ولايمكن لأي تشريع حتى لو كان نصاً دستورياً ان يمنع أولياء الدم من حقهم (الخاص) في الاقتصاص من قتلة ابناءهم وذويهم دون وجه حق.
جدية أرعبت جلاوزة النظام في اوضاع استثنائية ثورية كالتي يعيشها الوطن، لايمكن لقرار –كإقالة النائب العام- ان يمر مرور الكرام دون احتجاج يترافق مع تدقيق في الدلالات وتمحيص في الغايات والابعاد.
فالنائب المُقال، حتى وان بدى حصيفاً في التعاطي مع تفاعلات اللحظة الثورية، إلا انه لم يكن متهاوناً في التعامل مع قضايا الدماء والاخص تلك التي سفكها قناصة الحرس الجمهوري في جمعة الكرامة الدامية.
لقدى بدى الرجل جاداً إلى حد أرعب فيه جلاوزة النظام الدموي ومرتكبي جرائمة النكراء بحق المعتصمين العُزل من شباب ثورتنا المجيدة.
إقتران الفعل بالقول، كان سلوكاً واصفاً لمعظم تحركات الرجل، إذ لم يكتف بالتوجيهات الشفهية والخطية فحسب، بل سعى لتقصي الحقائق بنفسه إثر نزوله الشهير إلى ساحة التغيير، ومضى في ممارسة شتى انماط الضغط بهدف القبض على الجناة والتحقيق مع كبار القادة والضباط في أجهزة الامن والحرس الجمهوري.
إجراءات جادة ومواقف حازمة كهذه، لايمكن ان تمنح النظام المتداعي فرصةً لتمرير الإقالة وإنفاذها من عنق زجاجة الرفض الشعبي والثوري. إذ ان الإقالة –في التوقيت الراهن- تُجسد خطباً جللاً وحدثاً غزيراً بالدلالات الباعثة على القلق والتوجس.
التحقيق مع الاولاد والفضائية اليمنية بالنسبة للنظام الصالحي، تتصف مسببات الإقالة بطابع تراكمي، غير ان تراكمها المتخلق بفعل تعددها، لايعني بالضرورة عدم وجود تعليل رئيسي قابل للتفرد. يوم الأربعاء الآنف، كان النائب العام على موعد مع لقاء موسع يضم خمسين محامياً من أنصار ومنتسبي ثورة الشباب.
اللقاء كُرس لمناقشة مسودة المطالب الثورية التي قدمها الفريق القانوني إلى مكتب النائب العام مشفوعة بالأدلة والبراهين.
تمحورت ابرز المطالب حول ضرورة التحقيق مع المتورطين في مجزرة جمعة الكرامة الدامية، وفي مقدمتهم احمد علي عبدالله صالح قائد الحرس الجمهوري والقوات الخاصة، ويحيى محمد عبدالله صالح رئيس أركان حرب قوات الأمن المركزي، وعمار محمد عبدالله صالح وكيل جهاز الامن القومي، بالاضافة الى محافظ المحويت ووزير الداخلية.
عقب نقاش مستفيض، بدى النائب العام مقتنعاً بالحيثيات الماثلة والدلائل المرفقة، حيث أكد للفريق القانوني من المحامين استعداده للتحقيق مع الاسماء المذكورة باستثناء وزير الداخلية الذي يمتلك حصانة لاتجيز التحقيق معه سوى بقرار اتهام صادر من مجلس النواب بالاستناد الى نصوص القانون رقم (6) لسنة 1995م، الخاص بإجراءات محاكمة شاغلي وظائف السلطة التنفيذية العليا في الدولة.
تجاوب النائب العام مع المطالب الثورية المشروعة والمشفوعة بالأدلة والقرائن، لم يقتصر على موافقته واستعداده التحقيق مع نجل الرئيس وأبناء أخيه فحسب، إذ أبدى النائب استعداده ايضاً للتحقيق مع الفضائية اليمنية وذلك عقب ان قدم إليه الفريق القانوني دلائل تشير الى تورط القناة (المملوكة للشعب) في التحريض على العنف ضد ابناء الوطن من المعتصمين.
انتهى اللقاء المثير باتفاق قضى بأن يتم تقديم المطالب والادلة في صباح السبت (يوم أمس) على ان يوجه النائب العام بالتحقيق مع الأولاد والفضائية عقب فحص الادلة والتأكد من القرائن والبراهين المرفقة.
الإقصاء كضربة استباقية موافقة النائب العام على التحقيق مع الأولاد، جسدت بالنسبة للنظام التوريثي العائلي، قرعاً صاخباً لأجراس الإنذار، ومؤشراً ينذر بإخفاق كل الجهود الرامية الى حجب العدالة وتمييع قضايا سفك الدماء.
في أقل من 24 ساعة، عكفت اجهزة الاولاد ودوائرهم النافذة على إعداد سيناريو تنفيذي طارئ للإطاحة بالدكتور عبدالله العلفي من منصبه كنائب عام للجمهورية وتعيين بديل أقل حماساً وجدية.
بوسعنا هنا ان نصف قرار الإقالة رقم (17) لسنة 2011م بالضربة الاستباقية، فالأولاد ومن ورائهم الرئيس، كانوا يخشون فعلاً من إتجاه النائب العام لإخضاعهم لطائلة التحقيق وهو ما قد يُمهد بالتالي لصدور قرار بتوجيه الاتهام إليهم رسمياً بالتورط في سفك الدماء الطاهرة البريئة خلال جمعة الكرامة الدامية.
مبررات إقصاء الدكتور العلفي في شأن كالإقالة، حتى وان كان التحقيق مع الاولاد تعليلاً رئيسياً لحدوثها، إلا ان ثمة تعليلات أخرى لا تقل اهمية. بإمكاننا ان نورد أبرز التعليلات التي أدت لصدور قرار الإقالة في ثمانية محاور أساسية.
أولها: رفض الدكتور العلفي للضغوطات السلطوية العليا التي مورست بهدف دفعه لإغلاق التحقيقات في جريمة (جمعة الكرامة الدامية) وإحالتها الى المحكمة تحقيقاً لغاية الكلفتة والحسم السريع للقضية، حيث أصر العلفي على استمرار التحقيقات وشمولها لكل الضالعين في ارتكابها والمتهمين بإصدار التوجيهات وعلى رأسهم الأولاد وكبار القادة والضباط في الحرس الجمهوري والأمنين المركزي والقومي.
ثانيها: موافقة النائب العام على طلب للفريق القانوني كان يقضي برفع معسكرات البلاطجة المسلحين التي جرى استحداثها بهدف الاعتداء على مسيرات المعتصمين، حيث أبدى العلفي استعداده لتوجيه امر إلى وزير الداخلية –في ضوء الادالة والبراهين- لرفع تلك المعسكرات بوصفها تهديداً للسلم الاهلي.
ثالثها: رسالة النائب العام الى رئيس حكومة تصريف الاعمال التي طالبه فيها بالقبض على المتهمين بإرتكاب مجزرة جمعة الكرامة، إذ يشير الموقع الالكتروني للنيابة العامة الى ان العلفي هدد في رسالته بالاستقالة من منصبه إذا لم يتم القبض على المتهمين.
رابعها: موقف النائب العام من القرار الجمهوري الصادر بإعلان حالة الطوارئ، هنا سبق للنائب العام خلال اجتماعات ولقاءات مع قانونيين توجيه انتقادات لاذعة لقرار اعلان الطوارئ نافياً دستوريته، ونُقلت عنه ايضاً تصريحات قال فيها بأن قرار الطوارئ لامعنى له.
خامسها: توجيه النائب بفتح تحقيقات موسعه بجميع النيابات على مستوى المحافظات فيما يتعرض له المعتصمون من مجازر وانتهاكات واعمال عنف على يد بلاطجة النظام المتداعي.
سادسها: إتخاذة لإجراءات جادة في محاولة الاغتيال التي تعرض لها قائد الجناح العسكري للثورة الجنرال علي محسن صالح، حيث سبق للنيابة العسكرية التابعة للنائب العام ان طالبت حكومة تصريف الاعمال بتسليم المتورطين في ذلك الحادث الاجرامي للتحقيق معهم واتخاذ الاجراءات القانونية بحقهم.
سابعها: زيارة النائب العام الى ساحة التغيير بصنعاء ومعاينته لجثامين شهداء جمعة الكرامة الدامية بالاضافة الى موقع ارتكاب الجريمة ومباشرته للتحقيقات في ذلك الحادث الاجرامي البشع بنفسه. ثامنها: تأكيد النائب العام في لقاءات مع محامين وقانونيين بأنه ممثل للشعب ونائب عن الأمة وليس موظفاً لدى نظام صالح.
جدل حول دستورية الاقالة ان كان التباين سائداً في مواقف القانونيين من (عدم دستورية) قرار الإقالة، فإن الإجماع بالمقابل يبدو حاضراً بقوة حين يتعلق الامر (بانتفاء قانونية) قرار الإقالة الصادر بحق الدكتور العلفي.
في مشروعية القرار من الناحية الدستورية، ثمة تباين ناشئ عن أمرين، اولهما: فكرة العزل الواردة في المادة (151) من الدستور، وثانيهما: حقيقة استقلال السلطة القضائية الوارد في المادة (149) من الدستور ايضاً.
التعارض المتمخض عن المادة (151) يتمحور حول مدلول مفردة (العزل) الواردة، فالمادة نصت على الآتي: القضاة وأعضاء النيابة العامة غير قابلين للعزل إلا في الحالات وبالشروط التي يحددها القانون.
معظم الآراء تزعم هنا ان المقصود بمفردة (العزل) هو العزل عن الوظيفة القضائية وليس العزل عن المنصب، وبالتالي يزعم هؤلاء ان إقالة النائب العام لاتندرج ضمن هذه المادة لكونه لم يتعرض للعزل الوظيفي بل تعرض للتنحية من منصبه مع الابقاء على وظيفته كقاضي في السلطة القضائية.
بخلاف طرح كهذا، يعتقد القلة ان مفردة (العزل) تسري على المنصب كسريانها على الوظيفة، ويستدل هؤلاء بنص المادة (86) من القانون رقم (33) لسنة 1991م الخاص بالسلطة القضائية، حيث تنص المادة على الآتي: القضاة غير قابلين للعزل من مناصبهم إلا إذا كان العزل عقوبة تم توقيعها في دعوى محاسبة بموجب أحكام هذا القانون.
وبما ان المادة قرنت العزل بالمنصب كنص صريح وواضح، فإن القرار الجمهوري رقم (17) لسنة 2011م بتعيين نائب عام جديد لايعد دستورياً.
في شأن المادة (149) من الدستور، تتمحور التباينات في رأيين أساسيين، اولهما: يرى عدم جواز تدخل السلطة التنفيذية في استقلالية القضاء، وثانيهما: يعتقد بوجود هذا الحق استناداً للقانون المتعارض مع الدستور.
فالمادة نصت على الآتي: القضاء سلطة مستقلة قضائياً ومالياً وإدارياً والنيابة العامة هيئة من هيئاته، والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية جهة وبأية صورة التدخل في القضايا أو في شأن من شئون العدالة ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون، ولا تسقط الدعوى فيها بالتقادم.
حسب المادة، لايجوز للرئيس كسلطة تنفيذية التدخل في اعمال القضاء لاسيما عقب تعديل المادة التي كانت تمنحه حق التدخل بصفته رئيساً لمجلس القضاء الاعلى، وبما ان الرئيس صالح لم يعد وفق هذا التعديل رئيساً لمجلس القضاء فتدخلة بالتالي غدا مقتصراً على تمرير قرارات مجلس القضاء الاعلى والمصادقة عليها في صورة قرارات جمهورية دون ان يكون له الحق في تعديلها او رفضها.
الرأي الآنف يتناقض مع أولئك الذين يعتقدون بأن القانون يتعارض مع الدستور فيما يتعلق باستقلالية القضاء، فالقانون يتضمن نصوصاً تجيز للسلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية ووزير العدل التدخل في جانب من اعمال القضاء.
اجماع على عدم قانونية الاقالة التباين حول عدم الدستورية، يقابله توافق حول عدم قانونية القرار الجمهوري بإقالة الدكتور العلفي من منصبه كنائب عام.
إذ حددت المادة (19) من القانون رقم (39) لسنة 1977م الذي لازال ساري المفعول، آلية تعيين النائب العام بدقة متناهية، حيث اشترطت ترشيح النائب العام الحالي وعرض وزير العدل بالاضافة الى موافقة مجلس القضاء الاعلى كثلاثة اجراءات وجوبية تسبق أي قرار جمهوري بتعيين نائب جديد.
وجاء في المادة النص التالي: يعين النائب العام والمحامي العام الاول والمحامون العامون ورؤساء النيابة العامة ووكلاءها بقرار جمهوري بناء على ترشيح النائب العام وعرض وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الاعلى. وبالتالي فقرار الإقالة ليس قانونياً البتة، لسببين، اولهما: أنه لم يصدر بناءً على موافقة من مجلس القضاء الاعلى اوترشيح من النائب العام الحالي او عرض من وزير العدل، وثانيهما: أنه لايجوز لوزير العدل رفع اي ترشيحات بتعيينات جديدة لكونه أضحى وزير تصريف أعمال فقط كما هو حال حكومته.
كلا السببين يتمتعان بدرجة اقناع عالية، فالإقالة لم تأت بناءً على موافقة مجلس القضاء الاعلى لكونه لازال في إجازة قضائية ولم يعقد أي اجتماع له مؤخراً، وحتى لو افترضنا جدلاً حدوث المستحيل (وجود موافقة من مجلس القضاء) فان شرط الترشيح من النائب العام الحالي لم يحدث ابداً تماماً كما هو حال العرض من قبل وزير العدل، وان حدث عرض الوزير، فهو عرض غير قانوني لكونه صادر من وزير في حكومة تصريف اعمال، إذ لايجوز له دستورياً رفع اي تعيينات جديدة.
وماذا بعد لاتبدو غايات النظام من قرار الاقالة مقتصرة على آنف التعليلات فحسب، إذ ثمة تعليل إضافي يتصل بترتيبات المرحلة الانتقالية عقب التوقيع على المبادرة الخليجية وتشكيل الحكومة الوطنية.
فالنظام المتداعي بعد ان حقق له وجوداً في التركيبة القيادية للمرحلة الانتقالية بواقع 50% من الحكومة التي سترأسها المعارضة، هاهو يحاول الاستحواذ على المؤسسات النوعية التي يمكن ان تتحول الى ساحات صراعية مع شركاء المرحلة الانتقالية عبر تمرير تعيينات ذات طابع ولائي.
وبالتالي فقرار الإقالة يعني ايضاً، استحواذ المؤتمر الشعبي العام في المرحلة الانتقالية على النيابة العامة بموازاة ابقاءها اسيرةً للتعطيل بهدف الحيلولة دون ان تأخذ العدالة مجراها في قضايا قتل المعتصمين.
باختصار.. إقالة النائب العام محاولة سلطوية مفضوحة للي ذراع العدالة والتغطية على جرائم الإبادة المرتكبة بحق المعتصمين العُزل، كما انها تجسد حمايةً لمرتكبي تلك الجرائم وتمهد الطريق لإرتكاب جرائم جديدة مطموسة المعالم، بالاضافة الى سعيها لإيقاف الاجراءات المزعجة التي استحدثها النائب العام المُقال والحيلولة دون خضوع الاولاد لطائلة التحقيق.
أخيراً، لاشك بأن إقالة النائب العام في توقيت حساس كالذي تمر به ثورة الشباب يعد مؤشراً خطيراً يستوجب بالضرورة تحركاً جاداً.
وبما ان قرار الإقالة غير قانوني لما بيناه سلفاً، فإن مجلس القضاء والقضاة واعضاء النيابة والمحامون وشباب ثورتنا مطالبون بموقف مصيري لإسقاط هذا القرار الصادر عن رئيس متآكل الشرعية وكفى!