ثار أحرار اليمن في الشمال ضد الحكم الإمامي، وثار أحرار الجنوب ضد الاستعمار. وكان سبب الثورة في الشمال والجنوب واحدا وهو رفض الاستبداد والتبعية. ولكن الثورتان دخلتا عبر الصراع على السلطة في متاهة الاستبدال الذي تم بموجبه تغيير المستبد والمتبوع بدلا من التحرر الحقيقي. فصار الرؤساء أئمة غير معممين أو ملوكا غير متوجين. وصار الاستعمار دولا صديقة أو حليفة أو شقيقة عوضا عن دولة واحدة. وخابت آمال اليمنيين في ثورتهم. وصرخ شاعرهم الشعبي في مرحلة مبكرة من عمر الثورة "يا معشر الثوار من ذي ضيع الثورة؟!". وتداول الكثيرون ذلك السؤال الموجع واستظرفوه ولكنهم اكتفوا بمصمصة شفاههم وهز أيديهم وربما توجيه الاتهامات لهذا أو أولئك من الثوار ومضوا وكأن الأمر لا يعنيهم. وكانت تلك الصرخة صيحة في واد. لعل ثنائية الفكرة والصنم التي اكتشفها المفكر الجزائري مالك بن نبي وهو يرصد مشكلات البلاد المستعمرة بعد الاستقلال هي أفضل ما يفسر تفريطنا في الحرية. وقد لخص بن نبي يرحمه الله الثنائية بقوله "عندما تبزغ الفكرة يسقطُ الصّنم... وعندما تموت الفكرة يبرزُ الصّنم". فحين قامت ثورة سبتمبر كان هدفها الأول "التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتها وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات". ولكن الصراع على السلطة بين الجمهوريين أنفسهم من جهة والحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين من جهة أخرى جعلت ذلك الهدف وغيره من الأهداف للأسف مجرد حبر على ورق. ولاشك أنه من الجحود أن نقول بأن شيئا ما لم يتغير، ولكن ذلك التغيير تم تشويهه وإفراغه من مضمونه على مدى السنين. وقد تنبه أبو الأحرار الزبيري لذلك في مرحلة مبكرة حين انتقد قادة الثورة الذين صاروا يمارسون الاستبداد الإمامي فقال في قصيدته السينية المشهورة: والحكم بالغصب رجعي نقاومه حتى ولو لبس الحكام ما لبسوا إن الحرب الأهلية التي أعقبت الثورة والتي صار اليمن أثناءها ساحة للصراع الدولي ودفع الشعب اليمني خلالها أثمانا مضاعفة مقابل خروجه إلى العصر، هذه الحرب قد انتهت بالمصالحة الوطنية ومجيء حكومة مدنية –غير عسكرية– هي حكومة القاضي الإرياني. وقد كانت تلك الحكومة من حيث طريقة تشكيلها ومنهجها تمثل قفزة حضارية للشعب اليمني والشعوب العربية والإسلامية. وبدا أن هناك فرصة لأن تلقى فكرة الجمهورية العلاج أو الرعاية المناسبين. ولكن الأعاصير التي كانت تهب من الخارج والصراع الداخلي أقتلعا هذه النبتة قبل أن تتمكن جذورها في الإدراك والوجدان اليمني. وبدت الظروف المحلية والإقليمية والدولية وكأنها لا تسمح إلا بطريقة في الحكم ملكية أو عسكرية.. أحلاهما مرّ! وبعد "الثورة" التي حكم باسمها المشير السلال و"المصالحة الوطنية" التي رفع لواءها القاضي الإرياني كان لابد من "التصحيح" للعقيد إبراهيم الحمدي. وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك حاجة حقيقية للتصحيح أو أن التصحيح لم يكن جادا تماما ولكن المقصود أنه كان الى حد كبير وسيلة للحكم وليس غاية. ولأن الحمدي جاء من المؤسسة العسكرية وحكم باسمها واستند عليها فقد كانت هذه الخلفية مصدرا مستمرا للأخطاء سواء منه باعتباره القائد أو من أعضاء مجلس القيادة –الأخطاء تبدأ صغيرة ثم تكبر. وكما كانت الخلفية العسكرية هي مصدر العيوب في حكم الحمدي فقد كان غياب الانتماء القبلي للحمدي وحكمه هو مصدر للمزايا والإيجابيات وإن كان شقيقه عبدالله هو نقطة ضعفه. وهذا التحليل للسلبيات والإيجابيات في حكم الحمدي لا ينفي مشروعه الوطني أو يقلل من شخصيته التي كانت تتسم بالنزاهة والكاريزما ولكن ليس ذلك وحده كافيا لتحقيق معنى الجمهورية. وإذا كانت فترة حكم الحمدي على قصرها وذكراها الوردية في خاطر اليمنيين قد شوهتها عيوب الحكم العسكري، فإن فترة علي عبدالله صالح التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود قد زادت على عيوب الحكم العسكري عيوب الحكم القبلي مما زاد الطين بلة. . ولا يعني هذا انتقاص مكانة ودور المؤسسة العسكرية أو القبلية في مجتمعنا اليمني بقدر ما يعني أن وجودهما في رأس الحكم إضعاف للدولة وللوطن. ذلك أنهما يعتمدان على القوة والعصبية وليس على الشورى والإرادة الشعبية. على الجانب الآخر وفي الشطر الجنوبي فإن ثورة أكتوبر لنيل الاستقلال، لم تنج هي الأخرى من الوقوع في براثن الصراع على السلطة بين الجبهة القومية وجبهة التحرير شركاء الكفاح المسلح قبل الاستقلال. وبانتصار الجبهة القومية فقد استلمت السلطة بعد الاستقلال غير أن الصراع داخل الجبهة القومية نفسها أسفر عن إقصاء الرئيس قحطان الشعبي القائد المؤسس للجبهة والكفاح المسلح ضد الاستعمار وسيطرة الجناح اليساري على الجبهة والسلطة. وصارت الجبهة -الحزب- بمثابة الحاكم المطلق الذي حرم الشعب من السلطة، وصارت تمارسه باسمه! وبعد ذلك تم الإعلان عن تأسيس الحزب الاشتراكي باعتباره حزب الشعب الموحد. على أن المفارقة كانت تكمن في أن خضوع الشعب للحزب الواحد لم يمنع الصراع على السلطة داخل الحزب نفسه. وكانت هناك على الدوام نوبات صراع بين أجنحة الاعتدال والتطرف تارة وبين أجنحة قبلية وجهوية تارة أخرى. وكانت أحداث ال13 من يناير 1986م أبرز نوبات الصراع وأكثرها دموية. وانقسم الرفاق إلى طغمة منتصرة حاكمة وزمرة مهزومة متربصة. وحين جاءت الوحدة اليمنية فقد تحققت كهدف من أهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر. وبرغم ربيع الديموقراطية والتعددية الذي تحقق خلال الفترة الانتقالية وبرغم الآمال الكبيرة التي عقدها اليمنيون على الوحدة، إلا أنه وفي ظل الغياب التام لفكرة الثورة والجمهورية وفي ظل الصراع على السلطة بين شريكي الوحدة تم الإجهاز عليها في حرب 1994م وما تلتها من السنوات. حيث صار الرئيس بشكل متزايد حاكما مطلقا وملكا غير متوج. وفي سبيل تحقيق ديمومة الكرسي تمت إدارة البلاد بالحروب الطاحنة والأزمات والإفقار. وتفاقم الأمر أكثر حين ظن الرئيس أن مسألة بقائه في السلطة مضمونة فصار يتخذ الخطوات المتلاحقة لتوريثها لنجله. والحق أن اللوم في ضياع فكرة الجمهورية وتحولها إلى صنم على حد تعبير بن نبي لا يتحمله الصنم الذي حل محل الفكرة بل أتباع الفكرة نفسها. وهم هنا كل القوى السياسية والاجتماعية التي فرطت في الفكرة ومجدت –حتى لا نقول عبدت- الصنم. لاحقا: كيف فرطنا في الاستقلال؟