بذات عجلة التسارع الثورية، تمضي الثورة المضادة المبكرة قدماً في محاولاتها الرامية الى تثبيط الفعل الثوري وإثنائه عن بلوغ غاياته وأهدافه. بوسائل وانماط وأساليب عديدة، تسعى الثورة المضادة لتنظيم أدائها وتنسيق تحركاتها مستغلةً بذلك تمدد الثورة وقتياً واتساع الفجوة الزمنية بينها وبين تحقيق النصر الوشيك. مظاهرها لم تعد بخافية على أحد، غير ان بعضها يستعصي احياناً على التكشف والظهور لدى قطاع واسع من قوى الإسناد الثورية في المجتمع.
تبدو الشائعات أبرز أدوات الثورة المضادة التي تحظى بمنزلة الصدارة في قائمة المظاهر المستعصية على التكشف والظهور. في بدايات الثورة، لم تكن الشائعات المناوئة للفعل الثوري تحقق رواجاً شعبياً حقيقياً كنتاج للانهماك المجتمعي في متابعة البريق الثوري المنبعث بموازاة عشوائية الثورة المضادة وسطحيتها.
تقادم الأحداث وانتظام انشطة الثورة المضادة، عاملين اسهما في تمكن الشائعات من استعادة قدراتها التأثيرية في الوعي الجمعي على الصعيدين الشعبي والثوري.
تستمد الشائعات قدراتها التأثيرية أيضاً من عوامل اخرى لعل ابرزها التركيز على مخاطبة العواطف والانفعالات، غير ان تلك القدرات تظل محدودة الفاعلية حين يتعلق الامر بتوجيه المسار الثوري اجمالاً، إذ ان تأثيرها الحقيقي يبقى منحصراً -حتى الان- في التشويش على الثورة دون التمكن من إحداث اي تعديلات في مسارها الكلي.
إسعاف الرئيس صالح الى المستشفى في وضع صحي صعب، شائعة تبدو الاكثر رواجاً خلال الأسبوع الانف من بين شائعات أخرى، وهو ما يجعلنا نرى فيها انموذجاً يستحق التموقع في دائرة الاهتمام والضوء والتناول وصولاً لإبانه الابعاد واستخلاص الدروس.
الشائعة تتحول الى نبأ قبل أيام خلت، تداول الناس على نطاق واسع، شائعة تتضمن زعماً بإصابة الرئيس صالح بجلطة أسعف على إثرها الى المستشفى، ليس هذا فحسب، إذ سلك البعض نهجاً تضخيمياً للشائعة مدعياً وفاة صالح..! في أقل من 24 ساعة إتخذت الشائعة بعداً جديداً إثر تناولها من قبل وسائط اعلامية كثيرة، حيث زعمت تعرض صالح لوعكة صحية مفاجئة أسعف على اثرها الى مستشفى 48 التابع لقوات الحرس الجمهوري.
الإفراط في التدخين وتعاطي القات، تعليل جرى تسويقه كمبرر رئيسي يضاف الى مبررات فرعية كالسهر والإعياء والاجهاد. للوهلة الاولى، بدا ان الشائعة قد تحولت الى نبأ عصي على النفي لمسببات عديدة لعل ابرزها احتراف معدي (الشائعة-النبأ) في انتقاء التعابير والتعليلات الأقرب الى التصديق.
إضفاء الصبغة الرسمية على القصة إثر نشر يومية الثورة لما يفيد بدخول صالح الى المستشفى لاجراء فحوصات روتينية، جسد تعليلاً إضافياً لتبديد مسمى الشائعة وتحويلها الى ما يشبه الحقيقة بموازاة الحيلولة دون ارتفاع اصوات التشكيك في مصداقيتها.
معدو النبأ لم ينجحوا في تحقيق رواج فعلي لمضمونه فحسب، إذ تمكنوا من نفي توصيف الشائعة الذي كان سائداً قبل نشرها في وسائل اعلامية.
نفي الشائعة وتحسين صورة صالح يوم الجمعة، جاء النفي الرئاسي سريعاً إثر اختطاب صالح أمام انصاره في ميدان السبعين وظهوره على نحو مبدد لتلك الشائعة التي حُورت إلى نبأ فعلي. الظهور الصالحي كان سبباً في إدخال الشائعة طوراً ثالثاً، حيث تحولت من نبأ خاضع للتشكيك الجزئي إلى نبأ كاذب، لتعود بذلك الى تموضعها الطبيعي كشائعة جرى اعدادها لتحقيق اهداف محددة في إطار انشطة الثورة المضادة.
لم يكن الظهور الصالحي في السبعين يوم الجمعة فعل النفي الوحيد المبدد (للشائعة-النبأ) فحسب، إذ ثمة مؤشرات اخرى للنفي جرى تقديمها -قبل ذلك الظهور- في الصيغة الاخبارية التي خضعت على مايبدو لطائلة التعميم عقب نشرها بجريدة الرأي الكويتية.
حيث تضمنت الصيغة تكذيباً جزئياً لمعلومات الخبر على لسان مسؤول يمني وصفته صحيفة الرأي برفيع المستوى، نفى فيه ان يكون الرئيس مفرطاً في التدخين او تعاطي القات. بدا نفي المسؤول –في التفاصيل- كما لو كان غرضاً رئيسياً من بين الأغراض النهائية المتوخى تحقيقها من الترويج للشائعة اعلامياً، حيث مضى ذلك المسؤول مسترسلاً في الحديث عن جانب من الحياة الخاصة لصالح مؤكداً انه يستيقظ مبكراً ويصلي الفجر ويمارس الرياضة ويحافظ على التقاليد إلى آخر الأوصاف الافتراضية التي أظهرت صالح كما لو انه عمر الفاروق..!
ومما جاء في تلك الاوصاف الافتراضية ايضاً، ان صالح يحرص على ان ترتدي اسرته البرقع الاسلامي، ويحرص ايضاً على تناول العسل الحضرمي وأكل اللحم والسمن بذات درجة حرصه على مشاهدة هطول الامطار وسماع خرير المياة والجلوس قرب الاشجار وفي الوديان كذلك الحال بتمسكه بموجبات الانتماء الى القبيلة اليمنية ومحافظته على الموروث اليمني.
ببساطة: لقد أراد مطبخ الشائعة ان يلقي الضوء على مناقب افتراضية –أو لعلها خياليه- وذلك بهدف تحسين صورة الرئيس صالح بعيداً عن الإعلام الرسمي الذي لم يعد يحظى بأي مصداقية لدى الرأي العام اليمني.
الشائعات كبالونة اختبار غايات مطبخ الشائعة لاتبدو –في الواقع- مقتصرة على تحسين صورة صالح، إذ ثمة غايات اخرى بوسعنا اجمالها في نقاط أربع على النحو المبين تالياً.
أولى النقاط: يكمن في محاولات صرف اهتمام الناس عن جرائم النظام في حق المعتصمين سلمياً وإلهاء الراي العام عن متابعة التطورات الثورية واشغاله بأنباء مرض صالح ودخوله الى المستشفى. ثانيها: ايجاد حالة من التعاطف الشعبي مع الرئيس صالح لاسيما عقب الانحدار المرعب والتاريخي في مستوى شعبيته لدى عامة ابناء الشعب.
ثالثها: إيهام الثوار بضعف الرئيس وإنهياره بهدف تخليق شعور عارم بالانتصار الذي سرعان ما يتحول الى انتصار زائف إثر ظهور صالح امام مؤيديه متمتعاً بكامل صحته، وهو ما سيؤدي بالضرورة الى انعكاسات سيكولوجية ذات منحى سلبي في معنويات الثوار.
رابعها: الحصول على استقراء لاتجاهات المزاج الثوري والمجتمعي العام عبر استخدام شائعة مرض صالح كبالونة اختبار، ليس هذا فحسب إذ يمكن لهذه البالونة الاختبارية ايضاً ان تمنح النظام الصالحي القدرة على كشف ردود الافعال الثورية ومعرفة ما إذا كان الرجل لايزال يحظى بأي تعاطف في صفوف القوى الثورية وهو ما سيساعد بالتالي على استمالة هذه القوى من جانب النظام واستغلالها بشكل غير مباشر في انشطة التشويش.
عدا عن هذا وذاك، فالشائعة تمنح اجهزة النظام القدرة على معرفة مدى تأثير اي غياب مفاجئ لصالح عن السلطة وكذا تقديم اجابة دقيقة للتساؤل التالي: هل يمكن لاختفاء صالح او وفاته ان تتسبب في انهاء الفعل الثوري وانقاذ العائلة من مآلات الاقصاء اللائحة؟ بتعبير تساؤلي آخر: ماهو الخيار الامثل بالنسبة للعائلة وبقايا النظام، هل بقاء صالح يجسد الخيار الدفاعي الوحيد بالنسبة إليها ام العكس.
صحة الشائعة لاتلغي فرضية التوظيف رغم تعدد أوجه النفي، إلا ان ذلك لا يمنعنا من إفتراض صحة هذه الشائعة جدلاً، وهو إفتراض –فيما لو صح مضمونة- لا يلغي حقيقة التوظيف الأمني والسلطوي الواضح لهذه الشائعة ضمن انشطة الثورة المضادة عبر تضخيمها حيناً واضفاء ابعاد في احايين اخرى بهدف تمكينها من إلهاء الرأي العام وصرف اهتمام الناس عن جرائم النظام بموازاة تخليق تعاطف شعبي مع صالح وتحسين صورته بالحديث عن جوانب افتراضية من حياته الشخصية.
توظيف سابق لمتاعب صالح الصحية التوظيف الأخير لوضع صالح الصحي، لايبدو وحيداً، اذ سبق لأجهزة النظام ان سعت خلال مراحل منقضية الى توظيف الوضع الصحي للرجل وذلك بهدف الهاء الرأي العام عن قضايا مجتمعية هامة بالتوازي مع قياس مدى شعبية النظام والعكس.
في منتصف 2008م، تناقلت وسائط اعلامية شتى، نبأ اسعاف الرئيس صالح الى مستشفى مريم العذراء بمدينة اشتوتجارت في جمهورية المانيا الاتحادية. يومذاك، زعمت صحيفة "شتوتجارت ناخريتشن" الالمانية على لسان مصادر مطلعة ان للأمر علاقة بمرض خطير للغاية، ومضت الصحيفة في التعليق على مشهد دخول الرئيس صالح الى المستشفى حيث أشارت الى ان موكبة ذي السبع عربات كان محاطاً بحراسة مشددة من قبل الشرطة لدرجة دفعت احدى الراهبات الى القول: لعل بابا الفاتيكان هو المنقول الى المستشفى، ليتضح –حسب الصحيفة- انه ليس البابا وإنما الرئيس اليمني.
حظي النبأ وقتذاك، باهتمام شعبي ونخبوي لافت بصورة تسببت في الهاء الناس عن قضايا اخرى اكثر اهمية. لم تدم شائعات النبأ طويلاً، حيث عاد صالح من المانيا الى محافظة الحديدة مفتتحاً مهرجان الحسينية وملقياً خطابه الشهير الذي دعا فيه ابناء الشعب اليمني وقيادات المشترك الى الشرب من مياة البحر الاحمر..!
وفي نهاية 2009م سرت شائعات كثيرة عن سقوط الرئيس من فوق حصانه المسمى ب(العاصف) بصورة تسببت في كدمات ورضوض، غير ان الصحافة الرسمية لم تلبث ملياً حتى اقدمت على مجاراة الشائعة وتعديلها حيث اكدت تعرضه لحادث على خلفية ممارسته للرياضة.
حينها بدا اهتمام الصحافة الرسمية -في نشر برقيات واتصالات المواطنين للاطمئنان على صحة الرجل- مفاجئاً لدرجة دفعت كثيرين لربط هذا الاهتمام بمحاولات لصرف انتباه الرأي العام عن قضايا مجتمعية هامة كتعثر الحوار مع المشترك وتفاقم الازمات الاقتصادية والمعيشية.
ترجيحات عن امراض صالح على ان توظيفاً كهذا لا يعني بالضرورة خلو الرئيس صالح من الأمراض وعدم تعرضه لأي عوارض صحية، إذ سبق لمعلومات كثيرة ان تحدثت عن إصابته بأمراض خطيرة، وبحسب موقع عدن برس الاخباري فهنالك ترجيحات لاتستبعد ان يكون اللوكيميا (سرطان الدم) احد هذه الامراض. ويدلل البعض على واقعية متاعب الرجل الصحية بابتعاده عن تناول القات والسيجار وذلك امتثالاً لنصائح وارشادات طبية.
شائعات عن خلافات وهمية ربما كانت شائعة مرض صالح هي الأكثر تأثيراً من بين شائعات الثورة المضادة مؤخراً، غير انها ليست الوحيدة من حيث الانتشار والبروز، إذ سبق لشائعات عديدة ان تحدثت عن خلافات مزعومة بين الرئيس والأولاد.
ومضت الشائعات إياها في التاكيد على ان الاولاد باتوا يعارضون كثيراً من قرارات صالح، ليس هذا فحسب بل ان البعض أخذ يروج لشائعات وهمية تزعم بوجود محاولة قام بها الاولاد للتخلص من أبيهم وذلك بعد شعورهم بأنه يريد ان يتخلص منهم ابتداءً لاسيما عقب تاكده من تسببهم في جانب واسع من مسببات اندلاع ثورة الشباب المجيدة.
وهي شائعات مالبثت ان توارت بالتقادم، إذ ما انفكت الوقائع والأحداث تؤكد اتصافها بعدم الواقعية وابتعادها عن الحقيقة المغايرة لها تماماً.
وماذا بعد حاجة صناع السياسات الصالحية إلى معطيات للبناء عليها، مبرر آخر يدفع مطابخ النظام لتصدير شائعات والترويج لأكاذيب وهمية، غير ان التبرير الأكثر اقناعاً في واقعنا الراهن يظل منحصراً في محاولات التشويش على الفعل الثوري وصرف اهتمام الراي العام عن جرائم النظام وانتهاكاته في حق المعتصمين سلمياً.
على طريقة كرات الثلج التي يتضاعف حجمها كلما تدحرجت، تمضي مطابخ النظام إذن بانتاج الشائعات وتصديرها في محاولة –تبدو يائسة حتى الآن- للتأثير على الثورة وحرفها عن مسارها. بالتقادم، اضحت شائعات الثورة المضادة اكثر دقة وإحترافية في إصابة الأهداف المرصودة وصولاً إلى إحداث التشويش المطلوب.
مع اقتراب الثورة من مراحل الحسم، تبدو الشائعات من امضى الاسلحة السلطوية فتكاً واكثرها تأثيراً، وهو ما يضع الإعلام الثوري أولاً وشباب الثورة ثانياً امام تحد حقيقي للتعاطي مع الشائعات الاحترافية وتبني تكتيكات اكثر فاعلية تحقق غاية الدحض السريع لتلك الشائعات بموازاة تقليص آثارها السلبية في الوعي الجمعي لقوى الثورة. هنا يتعين على الثوار عدم السماح بوقوع اعلام الثورة مرئياً كان او مسموعاً او مقروءاً في فخاخ الشائعات المحترفة التي ظاهرها الاسناد للثورة وباطنها التثبيط والتقويض لها.
وبما ان الحيلة هي أساس فن الحرب، فينبغي على شباب ثورتنا المجيدة التعاطي مع الشائعات كفخاخ وحيل صالحية حتى ولو كانت تبدو للوهلة الاولى عكس ذلك. أخيراً، وامام استعصاء بعض الشائعات على التكشف والظهور يتعين على الشباب اعتماد الحيطة والحذر كسلوك في التعامل مع الوارد والشارد من الشائعات او الانباء او المعلومات والحيلولة دون الترويج لها قبل التاكد من واقعيتها ومصداقيتها وكفى