عبد الكريم سلام - صنعاء- swissinfo.ch بعد دخول الثورة الشبابية اليمنية شهرها الخامس وغموض مصير صالح وأرْكان دولته وتردُّد نائب الرئيس اللِّواء عبدربه منصور هادي بمباشرة سلطاته، وفي ظلِّ إصرار أنصار الرئيس على تأكيد عودته الوشيكة..
أصبحت الثورة الشبابية اليمنية في مُواجهة استحقاقات الشرعية الثورية أو الإنصِياع لمُقتضيات الشرعية الدستورية أو البحث عن طريق ثالث، يوفِّق بين مُتطلَّبات الثُوَّار ومُقتضيات الواقع الصَّعب الذي أفرزته محاولة اغتيال صالح وأركان دولته. فيما يتعلَّق بالشرعية الثورية، يبدو أن الأصوات المُنادِية بتشكيل مجلسٍ انتقالي، تُواجَه بفتور من قِبل كافة الأطراف، بما فيها المعارضة، التي يبدو أنها تبحَث عن تسوية تدور منذ حين حول انتِقال السلطة إلى نائب الرئيس. وعلى الرغم من تأكيد قادة "اللقاء المشترك" المعارض غيْر ما مرة، على أن القرار الأول والأخير للشباب، لأن الثورة ثورتهم، إلا أن الثوار لا يروْن في ذلك سِوى انتهازية سياسية ترمي إلى استغلال مناخ الثورة، من أجْل الحصول على مكاسب سياسية للمعارضة التقليدية، ممثلة بأحزاب اللقاء المشترك وتتعمَّد تجاهُل تحديد أي موقع للشباب الذين كانوا وراء تفجير الثورة، ولذلك يطالبون بمجلس انتقالي. بيْد أن الخطوات المُحرزة في هذا الجانب، لم تتجاوز حدود الرَّغبات والتطلُّعات ولم تَلقَ آذانا صاغية، كما تواجِهها صعوبة تَوافق الساحات على تشكيل مجلس انتقالي يحظى بقَبول كل مكوِّنات ساحات التغيير والحرية، خاصة منها المكوِّنات الشبابية الحِزبية، التي بات يُنظَر لها أنها تؤدِّي أدواراً لصالح أحزابها أكثر منه لمتطلَّبات الثورة، وهو ما قد يُعرِّض تلك المَطالب إلى الدُّخول في مساومات، خاصة مع تزايُد الإصرار على الشرعية الدستورية من قِبل ما بات يُطلَق عليه بقايا النظام المنهك. إلا أن واقع الحال، يُشير إلى أن جميع الأطراف، حتى في جبهة الثورة، أصبحت مُنهَكة بعد مُضي هذه المدة دون تحقيق نتائج تُذكر، ويبدو ذلك في أن قائد الجيش علي محسن الأحمر، المُنشق عن صالح، أكثر حماساً للتسوية، لأن يتسلَّم مقاليد السُّلطة نائب الرئيس. ويُشاطره الموقف ذاته، كلا من الجناح القَبلي في الثورة والمعارضة وشباب الثورة، الذين بدَوا مُمِلِّين لطول الانتظار في الساحات، دون أن يلوح لهم في الأفُق ما يوحي بأن الأمور تسِير في صالحهم، في الوقت الذي باتوا يتجرَّعون فيه مَرارة تسابُق محموم، من أجْل قطْف ثمار الثورة قبل نُضوجها، من قِبل الرموز السياسية التقليدية عبْر تسوية سياسية بين أطراف اللُّعبة اليمنية، يدعمها تدخُّل أطراف إقليمية ودولية، لا يبدو أنها متحمِّسة للتغيير الثوري على غِرار ما حصل في تونس ومصر.
المبادرة الخليجية من الناحية الدستورية، في البداية ومع تدخل العامل الإقليمي والدولي في مسار الثورة اليمنية، أصبح الحديث يدُور حوْل نقْل الرئيس لسلطاته، وِفقاً لما تضمَّنته المبادرة الخليجية، التي تُحيل عملية نقْل السلطة إلى المادة 115 من الدستور اليمني، التي تقضي بأن يُقدِّم الرئيس استقالته إلى مجلس النواب، على أن يكون قرار هذا الأخير بقبول الاستقالة، مشروطا بالأغلبية المُطلَقة لعدد أعضاء المجلس النيابي، ثم تأتي الخُطوة التالية وِفقاً للمبادرة الخليجية بعد 30 يوما، وهي انتقال السلطة إلى نائب الرئيس بموجب المادة 116 من الدستور، إلا أن ذلك ظلَّ مبعَث شكٍّ، خاصة لدى المعارضة، من أن لا تحوز الإستقالة على الأغلبية المُطلَقة، لأن الحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام)، على الرغم من انسحاب ما يزيد عن 80 نائبا برلمانيا ينتمون لكُتلته النيابية من عُضويتهم في الحزب الحاكم، إلا أنه مع ذلك سيظلُّ مؤثِّراً على قَبول استقالة الرئيس أو رفْضها، ما قد يعطِّل عملية تسليم السلطة بموجب المبادرة الخليجية.
عودة وشيكة للرئيس! وفي أعقاب الإعتِداء الذي استهدف الرئيس صالح ومعه أهَم رؤساء المؤسسات الدستورية والسياسية (ونقلوا على إثره للعلاج في السعودية ولا زالت الأنباء تتضارب حول حقيقة أوضاعهم الصحية)، اتضح شيئا فشيئا أن الحديث بدأ يتركَّز حول تولِّي نائب الرئيس اللِّواء عبدربه هادي، مهامّ الرِّئاسة بموجب المادة 116 من الدستور، التي تقضي بأنه "في حالة خلو منصب الرئيس أو عجزه الدائم عن العمل، يتولى نائبه القيام بمهامِّه لمدة ستين يوماً من تاريخ خُلُو منصب الرئيس، يتم خلالها إجراء انتخابات رئاسية". على أن تحقيق ذلك في الظرفية الحالية، يبدو بعيد المنال، لأن سجِلاّت الناخبين الحالية، تعتبرها المعارضة مُزوَّرة وناقِصة وتُعدُّ من الأسباب الرئيسية التي عقَّدت الأزمة بين الطرفيْن، ومن المُستبعَد أن تقبل المعارضة بإجراء الانتخابات بموجب تلك السجِلاّت، التي تطعن فيها أصلاً، ما لم يتم التوافُق على مرشَّح مُسبق للرئاسة وانتخابات شكلية، حتى يستطيع نائب الرئيس القِيام بمُهمَّة ترتيب انتِقال السلطة خلال الفترة الزمنية المحدَّدة. العائِق الثاني، ما زالت هناك أطراف في النظام ترفُض انتقال السلطة بتلك الطريقة وتؤكِّد على أن عوْدة الرئيس صالح من مَشفاه في الرياض وشيكة، وهو ما يعني: عدم شغور مكان صالح وأنه لا يُعاني من عجْز دائم يعيقه عن أداء مهامِّه، يوجب انتقال سلطاته إلى نائبه، لأن الأمر، وكما تسعى تلك الأطراف إلى تكريسه، لا يعدو أن يكون "غياباً مؤقتاً يوشك أن يزول في أي لحظة"، ولذلك ما انفكَّ الإعلام الرسمي، وعلى لسان مسؤولين كبار، يُبشر بعودة قريبة علي عبد الله صالح. على ما يبدو، أعاق هذا الوضع نائب الرئيس عبدربه هادي عن قيامه بمهامه، على الرغم من أنه نجح في تهدِئة جبهة المواجهات، إلا أنه - وفي ظل استمرار هذا الوضع الغائم الوضوح - بات مُطالَباً بأخذ زِمام المبادرة في تنفيذ صلاحياته، خاصة من قِبل قادة الجيش المنشقِّين ورجال القبائل والمعارضة وعلماء اليمن (رجال دين)، الذين طالبوه بمباشرة مهامِّه، لكنه أمام هذا الوضع الملتبس والضغوط التي يواجِهها، لَوَّح باستقالته، والتي إذا ما أقدَم عليها بالفعل، سيترتَّب عليها خُلُوّ منصبه بحكم المادة السالفة الذكر 116، وبذلك تؤول مهام رئيس الجمهورية إلى رئاسة هيئة مجلس النواب، إلا أن رئيس المجلس يحيى الراعي، كان بدوره من بين المُصابين بالهجوم ويتلقَّى علاجه في الرياض، ومع أن السلطة تَؤُول بموجب المادة ذاتها إلى رئيس الحكومة، إلا أن رئيسها الدكتور علي محمد مجور، هو الآخر من ضِمن ضحايا الهجوم وحالته الصحية حرِجة، فضلاً عن أن حكومته هي مجرد حكومة تصريف أعمال، ولم تحز على ثقة المجلس النيابي. هذا الوضع من شأنه، حسب فُقهاء القانون الدستوري، أن يطلق الجدل حول تفسير مفهوم هيئة رئاسة مجلس النواب الواردة في المادة سالفة الذكر، وهل هي محصورة برئيس المجلس أم هو ونوابه، وإذا فسُِّرت على أنها تعني رئاسة متضامنة (وهذا رأي يمكن أن تفتي به المحكمة الدستورية)، فإن الأمر سيؤُول إلى النائب الأول لرئيس المجلس الحالي حمير عبدالله بن حسين الأحمر، ومن ثم العودة مجدّداً إلى إثارة حساسيات الخلافات العائلية في رأس السلطة، وقد يحُول دون قبول طرفها الآخر في السلطة بانتقالها بهذه الطريقة. أما في حالة التفسير الضيِّق لمدلول هيئة رئاسة مجلس النواب وحصرها في رئيس الهيئة وحده، فإن الإشكال الدستوري لإيجاد مَخْرَج لنقل السلطة، سيبقى قائماً.
ما هو الخيار الأنسب؟ على ضوء تلك المُعطيات وصعوبة إجراء الإنتخابات الرئاسية خلال الأجَل الزمني المُحدَّد بستين يوماً، يبقى الخيار الأنسب، من وِجهة نظر الفِقه الدستوري (وأيضا بحُكم الأمر الواقِع الذي ترتفِع فيه نبَْرة المطالبة بإعمال الشرعية الثورية، سواء امتنع النائب عن ممارسة مهامِّه وظلَّ على تردُّده الذي أصبح مَثار تساؤلات كثيرة، أو وافق)، هو سلوك طريق ثالث بإصدار إعلان دستوري وتشكيل مجلس رئاسي، ليس لأنه سيجنِّب البلاد كل تلك المزالق، بل وسينتشِلها من الإكراهات التي ستجِد نفسها في مواجهتها، كتجدُّد المواجهات المسلحة والفراغ السياسي والدستوري المُريب، فضلاً عن أنه سيضمن مكاناً للثوار ويُؤمِّن حدّاً نِسبياً للمطالب الثورية، التي يرفعها شباب الساحات، ما سيخفِّف من حِدّة استمرارها بالزّخم الذي كانت عليه. وفوق كل ذلك، فإنه سيعطي فترة زمنية كافية لإنجاز الإصلاحات التي لا تقتصِر فقط على تصحيح جداول الناخبين، بل تؤسِّس لكل قواعد كلّ العملية الانتخابية، التي تشمَل إقرار نظام انتخابي جديد، يستبدل الاقتراع الأُحادي الفردي، بالاقتراع بالقائمة النسبية أو المختلط، الذي يجمع بين الفردي والقائمة النسبية وتقسيم الدوائر الانتخابية ومراجعة جداول الناخبين وتحييد وسائل الإرغام والتأثير على الناخبين، كالمال العام والإعلام الرسمي واستغلال النفوذ وتأثير الإدارة على إرادة الناخبين، وبما يفضي إلى تنظيم الإنتخابات الرئاسية والقيام بموازاة ذلك بالإصلاحات السياسية والدستورية والإقتصادية والإجتماعية، التي خرجت جموع الشعب إلى الشارع، للمطالبة بها، وإنجاز كل ذلك، يحتاج إلى فترة زمنية كافية قد تصِل إلى سنة كاملة، وِفقاً لحجم وشمولية الإصلاحات المُنتظرة، واستناداً إلى وقائع سيْر الإصلاحات من خلال التجربتيْن، التونسية والمصرية.
استباق قطْف ثِمار الثورة الخلاصة التي يخرج بها المُتابع، أنه في حال توافر الشروط الفِعلية لانتقال السلطة وأخذ كل تلك الوقائع والمُعطيات واحتمالاتها في الإعتبار، وفي ظل النصوص الدستورية المُشار إليها، سيبقى الجدل مُحتدِماً حول أي من الشرعيتيْن - الثورية أو الدستورية - تُعطى الأولوية، وهو جدل لن يحسمه، من وِجهة نظر الفِقه الدستوري، سوى إعلان دستوري مؤقَّت على مدىً زمني يُمكن خلاله إنجاز الخطوات الممهّدة، ليس لانتقال السلطة، وإنما أيضاً إلى ما هو أعمَق يُفضي إلى الإنتقال السياسي والديمقراطي وإلى الشراكة في السلطة والثروة والعدالة الإجتماعية والإقتصادية، التي يحلُم بها ملاين اليمنيين في ساحات الثورة والتغيير منذ خمسة أشهر، وباتوا يُدركون أن هناك مَن يسعى إلى استباق قطْف ثِمار ثورتهم قبل أوانها.