لا توجد عملية سياسية حقيقية الآن في الواجهة. ثمّة انحباس تام. وتقريباً: لا يوجد تواصل جاد بين اللقاء المشترك وفلول صالح. بالنسبة لنائب الرئيس، عبدربه منصور، فهو لم يكن طيلة حياته سوى «موظف صغير» بتوصيف أحد أبناء محافظته. الموظف الصغير لا يصلح سوى «للحِلاب والصرّ» كما يقول عنترة العبسي. وبالطبع فمن غير المتوقّع أن يكون منصور، أحد قيم وواجهات الظل في نظام صالح، منفصلاً عن الجسم الحقيقي المدبّر للسلطة، عن طبيعتها وخصيصاتها، بقيمه ومقاساته وسلوكه. لم يخطر ببالي للحظة أن نظاماً فاسداً مجرماً فاشلاً يمكنه أن يضع رجلاً جيّد الصفات نائباً لرئيس النظام. هذه معادلات مفرّغة، واستثناءات غير ممكنة عمليّاً. وبالنسبة لمنصور فهو لم يحرص، طيلة حياته، على أن ينسب لنفسه مدونة فضائل متعارف عليها. إذ تكمن فضيلته الكبرى، كما يعتقد ويرشح من تلميحاته، في كونه شديد الإيمان بفضائل الأخ الرئيس! كنا نريد أن نستخدم اللواء منصور كحصان طروادة. نعم، كحصان طروادة بالضبط: يختبئ الأبطال في أحشائه وتجرّه الأقدار والرياح حتى يدخل المدينة من بابها العظيم. في المدينة سيفكك الأبطال ألواحه الخشبية وسيقفزون من أحشائه إلى الميادين والشوارِع: الشعب يريد إسقاط عبدربه منصور. سنحاكمه بعد فتح أسوار مدينة طروادة. هو يعلم جيّداً طبيعة نيّتنا وقد احترز ضدها واكتفى بأداء دوره القديم: حراسة ظل الأخ الرئيس. ومثل بقية شخصيات ومحاور الفلول يخبئ عبدربه منصور في قبوه الصامت تلالاً من الفساد والفوضى والتآمر على مستقبل هذا الشعب تمتد لأكثر من ثلث قرن من الزمن. لقد كان النظام يعمل على منوال واحد مثل جوقة عازفين على تل. في لحظة من التاريخ تلاقى الرجلان: صالح ومنصور، على مداخل جميلة الجميلات «عدن» واتفقا على إحراقها. لم يكن اتفاقهما عارضاً. إنهما يتطابقان مثل الشيء وظلّه. في مجلس عبدربه منصور، كما يقول جلساؤه، تلفون جبّار عابر للحدود والمواقيت. يدير به جزءاً مهمّاً من اليمن في وجود صالح. ذلك الجزء الذي يخصّه ويخص سلالته، تماماً كما يفعل صالح. وخياركم خياركم لأهله وفلوله. السعودية، من جهتها، تحاول تخريب الثورة، أو على الأقل: دفعها للتراجع عبر استنزاف زخمها. ها هي تستدعي المشائخ إلى «الحضرة» بعد أن قطعت رواتبهم. في السعودية يستمع المشائخ هذه الأيام، إلى النصائح السعودية الثمينة حول الجهة السياسية التي ينبغي أن يقفوا إلى جوارها». في المقابل تدفع السعودية رواتبهم لسنتين قادمتين. في الوقت نفسه، تقدم السعودية مالاً مسالاًً: ملايين اللترات من النفط. يبادر «الفلول» بتوزيع المال المسال على المشائخ والشخصيات الاجتماعية من الدرجة الثانية والثالثة، من الذين لم يستحقوا شرف السفر إلى الرياض، بأسعار ربما تكون أقل من سعر التكلفة. وبدورهم يمارس الأخيرون عمليات بيع على المكشوف. تربّح من الموقف السياسي المساند للفلول، وإنعاشاً مالياً في غرفة الموتى. ظهر صالح على الشاشة وهو «متصومِل» محققاً مقولة «للإنسان ثلث ما نطق». بالنسبة لصالح فإن للإنسان كل ما نطق. ودائماً ما كان صالح يحصل على كل ما ينطق به. أنا أشمت بصالح، بالطبع أشمت بعاهته، وأشعر برضا عميق لأني أفعل ذلك. ينتابني ذلك الشعور البشري الفائق: لقد أحرق ربّي الكبير ربكم الصغير الليلة. أشعر بطمأنينة لأنه ظهر على تلك الصورة المهزومة «لكي يعلم الفلول أن الله على كل شيءٍ قدير». كتبت إليه قبل أكثر من عام: حتى هوميروس يدركه النعاس، كما يقول الشاعر اليوناني الكبير هوراس. لكن صالح – حتى اللحظة- يعتقد أنه أخطر من هوميروس. ظهر صالح على الشاشة محترقاً تماماً، يشحذ بعاهته المواقف السياسية ويستدر بنكبته تعاطف البشر. تماماً مثلما يفعل منكوبوه في الجولات والشوارع في كل بلدي. ظهر لكي ينفي إشاعة موته، لكنه لم ينفِ سوى إشاعة أنه بصحّة جيّدة. لم يتحدث عن اليمن، تحدث عن مستقبل أولاده في خطة تقاسم السلطة. لم يخاطبنا كرئيس بل كزعيم عصابة يفكّر بالتخلي عن جزء من مسروقاته لرجال الشرطة على أن يتركوا له الباقي ويكفوا عن ملاحقاته. لم يفكّر صالح، في حياته، كرئيس جمهورية. قبل منظر صالح المحترق رأيت صوراً مؤكّدة لشباب «زي الورد» أحرقتهم نيران صالح في تعِز وأبين .. كانوا أكثر تفحّماً من صالح، وأكثر شرفاً منه. لم يحصلوا على ثمان عمليات غير ناجحة، ولا حتى عزاء ناجح. على العكس من ذلك، فقد حصلوا على هجاء تافِه وتبرير غير أخلاقي لجريمة إحراقهم في أخاديد الثورة – خاصة في تعِز- حتى من قبل بعض الكتاب المرتزقة الذين لم يروا في أجسادهم المتفحّمة سوى «بطاقة عضوية حزب الإصلاح! » لم ينظروا إليهم كقتلى شهداء، من أبناء اليمن، دفعوا حياتهم ثمناً لموقفهم العظيم من المستقبل. كما لم يظهر صالح على الملأ لكي يشعر بالحزن، أو ليدعي الشعور بالألم. ولم يتوقف المرتزقة عند حد تبرير إحراقهم. وها نحنُ، مرة أخرى، أمام الطاقم ذاته يطالبوننا بتجنّب الشماتة بعاهة صالح لأنها ليست من أخلاق البشر المؤمنين بالقيم الإنسانية، وفي مقدمتها «أحبوا العدو». هؤلاء الكتبة المساكين لم يكونوا جيّدين كبشر وهم ينالون من الموتى الشهداء، تماماً مثلما فشلوا في أن يقدموا كتابة جيّدة. سأشمت بنكبة صالح حتى الثمالة. سنقف أمام عاهته، أنا واليمن. سأخاطب بلدتي المنشرحة لما ترى من عاهات: سأبول عليها وأسكر، وتبولين عليه ونسكر، كما كتب الشاعر العراقي مظفر النوّاب. سأتنازل عن عضويتي في مجلس أمناء البشر لصالح قافلة الضجيج. وسأنظر إلى حريق صالح من موقعي كيمني لم ينم ليلة واحدة في حياته دون أن تصله روائح حرائق صالح في كل البلد. كانت جثث شباب أبين الفقراء مرمية على بوابات العدم كما لو أنهم مجرّد حطام لأطباق طائرة لا تنتمي لهذا العالم. وبالنسبة للذين قتلوا في جمعة الكرامة بإشراف صالح الشخصي فقد وصفهم بأنه قتلى عملية تغرير، وأن قتلتهم هم قنّاصة «متضايقون من هتافاتهم». وبالنسبة لنا، فإن من أشعل النار والشظايا في جسد صالح هو قاتل قنّاص ضاق ذرعاً بحديث صالح عن الدم إلى الركب. صالح يعلم أن «الجنيص» حكاية واحدة، وأن من أعان قناصاً سلطه الله عليه. لنسترجع هذه الخبريّة: في بدايات الثورة ذهب حشد من المشائخ وعلماء الدين للقاء صالح. عرضوا عليه النقاط الخمس، في حضور الجنرال علي محسن. قرأ صالح المسوّدة ونهض من مكانه. صرخ في وجه الزنداني وصادق الأحمر: قسماً بالله العظيم ليسيل الدم للركب. ثم غادر ديوان اللقاء. وعندما خطب بعد ذلك، وقبلها، لم ينسَ للحظة واحدة أن يستحضر «الدماء التي سفكت والدماء التي ستسفك». وبعد ذلك بزمن أطل صالح علينا من العاصمة السعودية، جداره الناري الأخير، بثياب سعودية «دشداشة وشماغ» لكي يهددنا بأنه «سيواجه التحدي بالتحدّي». صالح يجيد لعبة الدم والحريق. لكن العرب تقول: يؤتى الرجل من مأمنه. كان صالح يقتل أصدقاءنا وإخواننا وكنا نطالبه بالكشف عن القتلة. كان يهرُب، ويراوغ. الآن نطالبه بالكشف عن مغتاليه. عن الذين قتلوه وقتلوا أصحابه. ها هو يعجز. يهرب مرة، يعجز مرّة أخرى، هذه هي روايتنا، سرديتنا العظيمة مع نظام صالح لثلث قرن. صالح قد يعود إلى اليمن، ولو تدحرج على كرسي متحرّك كما في تقرير حديث لصحيفة أميركية. لكنه يعلم جيداً أنه ليس بمقدوره أن يحكم اليمن، ولا سلالته، بعد اليوم. لقد يئس صالح من حكم اليمن لكنه سيرضى بالقليل من ذلك: دس سلالته في أي تسويات تخص المستقبل. لن نسمح له، ولا لسلالته، بتخريب مستقبلنا كما فعلوا في ماضينا. يستطيع الآن، وفقط، أن ينشر الفوضى في ربوع اليمن المكروب، وها هو يفعل، وعلى الثورة أن تستعد لاحتواء الفوضى وتفكيكها كما فككت النظام وأسقطته. حتى لعبة الفوضى ليست بلا نهاية. في لحظة ما يشعر لاعب السيرك بالإعياء، ويسقط أو تخونه قواه. وفي مرّات غير قليلة، التهمته اللبوة التي يمتطي ظهرها على المسرح، أو خنقته حبال اللعبة..