أخفق الرئيس العائد من الاستشفاء في تجسيد دور مطفئ الحرائق الذي أرادت مطابخ الأولاد له أن يؤديه كتبرير لعودته متخفياً وسط إجراءات أمنية ذات طابع استثنائي. كان إخفاقه في تأدية ذلك الدور بدهياً، فالرجل لم يعد بوسعه أن يكون إطفائياً لأنه ببساطة شديدة غدا مصدر توتير وفتيل تفجير ومسعّر حروب. يدرك الرئيس العائد من جحيم المحرقة أن الشعب لم يعد يطيق وجوده كحاكم، غير انه يمضي في سيناريوهات العناد في محاولة تبدو يائسة لارتداء عباءة المنتصر والقادر. لقد عاد متخفياً وفق خطة أمنية معقدة التركيب غامضة المسار مغلفة بالسرية والكتمان لكي يثبت لنفسه أمرين، الأول: انه مازال رئيساً، والثاني: انه لازال قادراً على فرض أجندته وشروطه. يبدو الرجل موهوماً بقدرته على استئناف تكتيكات الخداع والتموية التي ظل يمارسها منذ إعلانه القبول بالمبادرة الخليجية. انه يظن آثماً ان بوسعه الاستمراء في لعبة الخداع والتموية وصولاً الى تحقيق أكبر قدر ممكن من المماطلة والتسويف وإحراق المراحل. في الواقع لا تبدو المماطلة هي الغاية الاستراتيجية الوحيدة، فالرجل يراهن على امكانية فرض واقع ما بعد رحيله بالكيفية والآلية والطريقة التي يرغب بها. لا يريد الرجل أن يستوعب حجم التغييرات التي أحدثتها ثورة الشباب المجيدة في حياة اليمنيين، انه وعلى طريقة الديكتاتوريين البلداء لازال مؤمناً بقدرته على إيقاف عجلة الزمن وتعليق مصير البلاد في قبضته وبين يديه. حفلة دماء على شرف العودة حين تقررت عودته، بدا واضحاً بالنسبة للأولاد أن تلك العودة تنطوي على مخاطرة كبيرة، ليس لكونها قد تتسبب في تفجير الموقف داخلياً فحسب، بل لأنها أيضاً ستطيح بكل الترتيبات على الصعيدين الإقليمي والدولي. ورغم انها مقامرة ومغامرة بالنسبة اليهم، الا ان انهم كانوا مستعدين لدفع أثمان تنفيذها حتى لو تسبب ذلك في عقوبات أممية تبدو وشيكة. في الداخل، اختلفت الحسابات، فالعودة بقدر ما تجسد تحدياً للثوار فإنها في الوقت عينه ستؤدي الى تفجير الموقف وإشعال الفتيل. كان لابد من اعتماد مخطط يكفل تقليص تداعيات العودة الصالحية الى مستواها الأدنى بموازاة تخليق مسببات واقعية لتبرير تلك العودة. إيقاد النيران جسد خياراً مثالياً لسلطة دموية لا تؤمن إلا بمنطق القوة، لقد انتهى الأولاد إلى ضرورة تنفيذ حفلة دماء وبروفة تصعيد عسكرية وذلك لكي يمنحوا صالحاً التعليل الكافي لتبرير عودته! ببساطة: أرادوا أن يجعلوا من تلك العودة عامل تهدئة لموقف متفجر، بحيث يتحول صالح من مسعر حروب وفتيل تفجير ونقطة توتير الى إطفائي يحاول إخماد النيران وتجنيب البلاد ويلات الحروب!
مذابح لتبرير عودة صالح رغم فشل مساعيهم تلك وانكشافها، الا انهم صنعوا مشهداً كاد ان يكون مؤثراً بالفعل، لقد استماتوا في اظهار رئيسهم امام العامة في عباءة الحريص على البلاد وحاولوا بجهود مضنية ان يوهموا عامة الشعب أن الرئيس الجريح لم يحتمل رؤية النيران المندلعة في بلاده فعاد مسرعاً لكي يطفئها ويثبت للجميع ان عودته كانت ضرورة أملتها مصلحة البلاد! كان واضحاً بالنسبة لمطابخ النظام ان عودة صالح في ظل أجواء ما قبل المذابح الأخيرة لن تكون مقبولة اطلاقاً، بل انها –اي العودة- يمكن ان تتسبب في انفجار غير قابل للاحتواء. ورغم ان عودته -في كل الأحوال- لم تكن تحظى بأي قابلية شعبية على الإطلاق، إلا أن مطابخ النظام لم تدخر جهداً لتحقيق ادنى درجات القبول الشعبي وذلك عبر تحويل فعل العودة الصالحية من فتيل تفجير الى عامل تهدئة! ما فعلته مطابخ الأولاد ببساطة أنها أضرمت النيران ورفعت نسبة التوتير وأوغلت في سفك الدماء والبطش ووضعت البلاد على شفا الحرب الأهلية، ثم منحت «صالح» الفرصة لإخماد الحرائق وخفض التوتر وتجميد خيار الحرب الأهلية لتجعل بذلك من عودته عامل تهدئة وتحولها من نقطة تفجير الى ضرورة ملحة! لقد سفك النظام العائلي كل تلك الدماء الطاهرة الزكية وارتكب تلك المذابح والجرائم الشائنة لكي يبرر عودة رئيسه.. حقاً انها قمة البشاعة.
عاد لتشكيل حكومة حرب منذ الإعلان المفاجئ عن عودة صالح، كرس الإعلام السلطوي جهوده لترسيخ قناعة مؤداها: ان فعل التهدئة مرتبط بفعل العودة. لم يدخر هذا الإعلام جهداً لكي يثبت لعامة الشعب ان عودة صالح قد وضعت حداً للتصعيد العسكري، فلولاها لظل الموقف متفجراً ولما سكنت لعلعة الرصاص التي سادت لأيام خلت. أخفقت جهود هذا الإعلام في الحيلولة دون ارتفاع مؤشرات القلق لدى البسطاء من أبناء الشعب اليمني لاسيما عقب الخطاب الأول الذي ألقاه صالح بعد عودته. كان واضحاً ان صالح لم يرجع لكي يزرع أغصان الزيتون او يطلق حمامات السلام، لقد عاد ليشكل حكومة حرب ويضع اللمسات الأخيرة على مخططات التفجير التي ما انفكت مطابخ الأولاد تعدها منذ مغادرته للاستشفاء. انه يريد ان يجعل من عودته ووجوده أمراً واقعاً، فإن تعذر ذلك فالويل والثبور وعظائم الأمور هي المصير الآتي لا محالة، تلك هي الرسالة التي تلقاها العامة بوضوح لا يقبل التشويش.
بروفة التفجير العسكري تخليق مبررات العودة لا يمكن اعتباره تعليلاً وحيداً للمذابح والأعمال الإجرامية التي ارتكبها النظام العائلي في حق الثوار. لقد أراد النظام أن يصنع بروفة حقيقية لتفجير الموقف عسكرياً ملوحاً للعالم والإقليم بخيارات الحرب ولغة القوة للتعاطي مع الاتجاة الدولي نحو خيار التدويل. منذ مغادرته، لم يدخر الأولاد جهداً في محاولة لاستدراج قوات الجيش الثوري الى مربع التصادم العسكري، لقد حاولوا مرات عديدة دفع الفرقة الأولى مدرع الى قصف دار الرئاسة والرد على مصادر النيران القادمة من معسكرات الحرس الجمهوري، غير ان الفرقة اكتفت بعدم الرد رغم قدرتها على ذلك. في الواقع، كان خيار التفجير العسكري ومازال بديلاً مثالياً بالنسبة للأولاد، لكنهم أرادوا أن يجعلوه مبرراً عبر دفع جيش الثورة للرد على مسلسل الاعتداءات والاستفزازات، غير ان جيش الثورة كان بارعاً في تفويت الفرصة إثر التزامه بالدفاع عن المعتصمين دون التورط في توسيع العمليات العسكرية.
إما صالح وإما الحرب! حين نتحدث عن قرائن مخطط العودة ليس بوسعنا إغفال دلالات واضحة كتوقف القصف العنيف عن الفرقة وساحة التغيير وعودة الكهرباء بالتزامن مع عودة صالح ومن ثم انقطاعها مرة اخرى. بانكشاف مخطط العودة وفشل صالح في تأدية دور الإطفائي، حاول النظام استئناف أعماله الإجرامية وسيناريوهات سفك الدماء لممارسة ضغوط استثنائية على الثوار وذلك في محاولة يائسة لإجبارهم على القبول بوجود صالح والتعاطي مع عودته كأمر واقع. كبح جماح التصعيد الثوري السلمي غاية رئيسية بوسعنا إدراجها في قائمة غايات مخطط العودة، فالنظام كان وفق معطيات شتى يخشى لغة التصعيد السلمي التي شرع الثوار في اعتمادها كنهج استراتيجي للحسم الثوري، وهو ما دفعه للإيغال في سفك الدماء بهدف تحطيم العزائم الثورية وفرملة الاندفاع الثوري نحو مربع التصعيد السلمي. إما صالح وإما الحرب، رسالة سلطوية تضاف إلى الغايات أيضاً، فما دام صالح قد عاد متقمصاً دور الإطفائي فيجب –حسب تلك الرسالة- ان يظل ماكثاً حتى لا تندلع النيران مرة اخرى.
تجميد أرصدة صالح وأموال عائلته وفق خطابه الأخير، بوسعنا الادعاء أن بزّة الإطفائي التي أخفق صالح في ارتدائها على النحو المتوخى سرعان ما ستستبدل ببزة الحرب. انه -من واقع هذا الخطاب- لا يبدو عازماً على التوقيع وتنفيذ المبادرة قدر عزمه على استمراء المراوغة والتسويف وتزييف الحقائق وإحراق المراحل وكسب مزيد من الوقت. حتى وان جرى تقديم عودته في شاكلة المنقد والمخلص، ستظل الحقيقة ساطعة، فالرجل لم يرجع سوى لتشكيل حكومة حرب والإشراف على العمليات الحربية وإدارة الأنشطة الانتقامية وصولاً الى تفجير الموقف عسكرياً حين تسمح الظروف والأوضاع بذلك. باتضاح غاياته وأهدافه يبدو الإقليم والعالم مطالباً بعدم السماح له بالحصول على اي مساحة للتحرك او فرصة للعبث او هامش للمناورة والخداع، إذ لابد من إجراءات حاسمة وتصعيدية تكفل تحجيم قدرته على المراوغة والتفجير على حد سواء. بوسع العالم هنا ان يتحول من متأثر بالألاعيب الصالحية الى متحكم فيها عبر اتخاذ خطوات وتدابير عملية تبدأ بتجميد أرصدته وأمواله في الخارج وتنتهي بوضع نظامه تحت طائلة عقوبات الفصل السابع من الميثاق الأممي.
وماذا بعد؟ ربما تسببت عودة صالح في تخليق مشاعر الإحباط لدى عدد من الشباب والثوار، غير انها لن تثنيهم بكل تأكيد عن استئناف مسيرة النضال حتى تحقيق مجمل الأهداف الثورية. هنا يتعين على شباب الثورة المجيدة ان لا يسمحوا لتلك المشاعر بالنمو والسيطرة، فإذا كانت العودة الصالحية تجسد تحدياً كبيراً في مواجهة الفعل الثوري، فينبغي على الشباب أن يكونوا بمستوى هذا التحدي، وان يثبتوا للعالم قدرتهم على الصمود وفرض إرادتهم مهما كانت الظروف. يجب ان لايسمح الثوار لهذه العودة بتثبيط عزائمهم أو التأثير على معنوياتهم، فالرجل عاد متخفياً لائذاً بموجبات الحيطة والحذر، لم يدخل صنعاء في موكب ولم يستقبله احد، وهذا بحد ذاته انتصار لهيبة الثورة وتأكيد على قوة الشباب. الثورة تملك العديد من عوامل القوة والبأس، وهي بالقطع لم تستخدم من تلك القوة الجبارة سوى النزر اليسير المتفق مع نهجها السلمي، فلازالت الثورة مثلاً تملك جيشاً وقواعد عسكرية في طول البلاد وعرضها ولديها عتاد عسكري وطائرات حربية وقبائل مقاتلة، غير أنها لا يمكن أن تنساق إلى مخطط المواجهة الشاملة إلا اذا فرضت عليها فرضاً، الثورة المجيدة بدأت سلمية و يجب ان تظل سلمية حتى تتحقق جميع أهدافها لتكون بذلك أسمى وأرقى ثورة شعبية في التأريخ المعاصر. إذن، لا يمكن للصمود الأسطوري الذي أبداه شباب الثورة في الساحات على مدى تسعة أشهر أن يذهب هباء، تلك هي الحقيقة الماثلة، وبالتالي يتعين على الثوار مواصلة الصمود والتجلد والاستبسال وتهيئة أنفسهم لكل الاحتمالات. رغم كل التحديات سنظل مؤمنين أن الثورة ستنتصر في النهاية مهما تقادم بها الزمن، ولن تثنيها عودة صالح او مخططاته عن المضي قدماً في تحقيق أهدافها النبيلة. بعودته وتجاهله لنصائح الإقليم والعالم اختار صالح ان يتحدى إرادة شعبه للمرة الثانية، لذلك فالمصير والمآل هذه المرة سيكون أكثر إيلاماً وقتامة عملاً بمقولة: لا يوجد مصير إلا الذي نصنعه بأيدينا، صالح الآن يصنع مصيره ومصير نظامه بيده، كذلك الحال بالنسبة للثورة والثوار، غير ان الفارق الوحيد بين المصيرين هو أننا مؤمنون بالنصر وموقنون أن الدماء الطاهرة الزكية التي سفكها صالح وأبناؤه لن تذهب هدراً.. وكفى!