يقول ابن خلدون في مقدمته بما معناه إن كل دولة تمر في تاريخها بأربع مراحل، آخرها مرحلة الضعف بسبب الفساد الذي يستشري في شتى مفاصلها، وفساد حكامها الذين لم يعاصروا مرحلة تكوين الدولة، وبالتالي ركنوا إلى الدعة والخمول، ففسدوا وأفسدوا، والنتيجة الحتمية سقوط تلك الدولة وتلاشيها، وقيام دولة أخرى على أنقاضها...! فإلى قبل أقل من عام لم يكن يخطر على بال احد أن يصل الحال بعلي عبدالله صالح شخصياً وأعوانه إلى أن يشكوا والدماء تتساقط -أو تكاد- من أعينهم، جراء عملية الإقصاء من المنصب التي تتم لهم اليوم بواسطة ثورات المرافق والمؤسسات، وهم من حازوا براءة اختراع هذا المنتج السيئ (الإقصاء) ومارسوه قولاً وفعلاً في الجنوب، إلى حد أن كل شيء بعد حرب 1994 كان يسير بعشوائية ورتابة مملة غير عملية الإقصاء فهي الوحيدة التي سارت بصورة منظمة وممنهجة كإيقاع عقارب الساعة بدقة حركتها وانتظام آليتها، ومن ثم عُممَ منتجهم هذا بعد نجاحه بالجنوب على باقي المحافظات الأخرى وبالطرق ذاتها وبالروح النشطة نفسها تم إقصاء شركاء ما بعد 94، لتتوسع بعد ذلك بطن الفساد المنتفخة وتتهدل أوداجه. الأسلوب الإقصائي الذي اتبعه علي عبدالله صالح بحق شركاء الوحدة وشركاء ما بعد 94 حتى مطلع 2011 تمثل بإبعاد كل من يختلف معه ولا يدين بالولاء والطاعة لشخصه من أعلى منصب حتى أصغر موظف وحارس وزارة في القطاعين المدني والعسكري بقرار سياسي متغطرس يختلف تماماً عن أسلوب الإبعاد والطرد الذي يتعرض له اليوم صالح وأعوانه من رموز الفساد الهرمة من مسؤولي المؤسسات والمرافق، والمتمثل بثورة نوعية عارمة أخذت أشكالاً مختلفة كان آخرها ثورة المؤسسات. أي أن الطريقة الأولى التي اتبعها صالح كانت وفق قرار سياسي محض، والطريقة التي أقصته وتقصيه اليوم وأعوانه هي جماهيرية عمالية صرفة، وشتان بين الطريقتين، بين من يُقصى عبر قرار سياسي متسلط فاسد ينشد مزيداً من الهيمنة والاستبداد، وبين من يُقصى بثورة شعبية صنعتها جماهير الجياع على وقع قرقرة البطون الجائعة والنفوس المخنوقة من حسرات الضيم والقمع والفساد والتجويع، كالتي نراها اليوم ترتعد لها فرائص بقايا فساد يعتريه الهلع من صرخة المظاليم وهتافات شباب تائه يتلمس طريق مستقبله في الساحات والميادين. ما تقدم ذكره لا يعني بالضرورة تأييداً لأي شكل من أشكال الإقصاء قد تطال أي موظف أو مسؤول شريف ونزيه وإن كان من حزب الفساد الحاكم نفسه، ولست شخصياً مع من يتحمس لاجتثاث كل ما هو مؤتمري من على الخارطة السياسية، فهذا من شانه أن يعيدنا إلى المربع الأول وممارسة أشياء نستهجنها ونمقت صناعها، بل ونحن ضحاياها أصلا، «لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثله....». فأحزاب كالمؤتمر الشعبي العام لا تحتاج إلى قوانين اجتثاث ولا إلى أساليب إقصاء وطرق إبعاد، فهي أحزاب -أن جاز تسميتها أحزاب أصلا- شبيهة بالسمكة ستموت وتحتضر بمجرد خروجها من «ماء الحكم» كونها تأسست بقرارات جمهورية ونمت وانتفخت بهرمون السلطة وأصبحت جمعية خيرية لحصاد الدوائر الانتخابية وديكور يحتوي كل الألوان والمساحيق ليتخفى رأس الحكم خلفه برداء الديمقراطية والتعددية المغشوشة. بالمجمل فإن تركيبة هذه الأحزاب لا تمنحها عوامل البقاء ولا أسباب التطور، فالاضمحلال هو مصيرها المنتظر، ولنا في حزبي الرئيسين المخلوعين المصري حسني مبارك والتونسي زين الدين بن علي نموذج لنوعية هذه الأحزاب ومصيرها. اليوم علي عبدالله صالح بعد أن تم نزع مثالبه الحاكمة وأنيابه المتسلطة بواسطة المبادرة الخليجية أصبح رئيساً مع وقف التنفيذ، عاطلاً عن العمل، يبعث ببرقيات والتهاني لرؤساء دون رد وانضم والحسرة تستبد له إلى فريق «خليك بالبيت» الذي شكّله هو بنفسه في السنين الخوالي، جُل أعضائه من الجنوب، ليس هذا من باب التشفي، ولكن فقط نسلط بعض الضوء على مصير آل إليه من كان يعتقد حتى وقت قريب انه بعيد عنه، وسيكون هذا هو مصير كل من لا يعتبر ويعي حقيقة أن الأيام دول بين الناس.. ولله عاقبة الأمور. *خاتمة من شعر أبي البقاء الرندي: لكل شيء إذا ما تم نقصانُ فلا يغرّ بطيب العيش إنسانُ هي الأمور كما شاهدتها دُوَلٌ من سرهُ زَمنٌ ساءته أزمانُ! المصدر أونلاين