شيئان لو بكت الدماء عليهما عيناك حتى يؤذنا بذهاب لم يبلغا المعشار من حقيهما فقد الشباب وفرقة الأحباب لقد توقفت عن كتابة هذه الأسطر أياماً حتى أستطيع أن ألتقط أنفاسي بعد سماعي الخبر الفاجع بوفاة صديق العمر ورفيق الدرب وشقيق الروح الأستاذ محمد عبد الرحمن الفقيه. هذا الخبر الذي جعلني أعيش في ذهول وحيرة ووحشة وقتاً ليس بالقصير مع إيماني بقضاء الله وقدره وأن «لكل أجل كتاب»، ومع علمي أيضاً بأني لن أخلد بعده وكما قال الشاعر: إنا نعزيك لا إنّا على ثقة من الحياة ولكن سنة الدين فما المعزى بباقٍ بعد ميته ولا المعزي ولو عاشا إلى حين ومع عدم ولعي بالكتابة في الصحف إلا أن واجب الأخوة وحق الصداقة والزمالة أجبراني على كتابة هذه الأحرف الحزينة. والحق أقول إن حصولك على أخ في الله نعمة لا تساويها نعمة، وإذا أضيف إليها رفع الكلفة بينك وبين أخيك فهذه نعمة أخرى، فإذا أضيف إليها تقارب الطباع والمشاكلة في كثير من الأمور فهذه نعمة ثالثة، فإذا كان يبث إليك همومه وتبث إليه همومك فهذه نعمة رابعة وهكذا. وحتى لا أثير الأحزان من جديد فإنني سأضرب صفحاً عن ذكريات أخوة استمرت أكثر من عقدين من الزمن مثلت نموذجاً فريداً لأخوة في الله لا مصالح فيها، وأدع الكتابة عن ذكرياتها حتى تجف الأحزان ويهدأ البال إن شاء الله تعالى وأقتصر على ذكر بعض مناقب الفقيد. لقد كان الفقيد طاقة لا تفتر في العمل الدعوي ورمزاً للتضحية والتفاني في سبيل العمل الإسلامي، فهو مع عمله في تحفيظ القرآن الكريم كان يدير جمعية خيرية ويمارس عملاً قيادياً في القطاع الطلابي للتجمع اليمني للإصلاح (أمانة العاصمة)، ويشارك طلابه وأصدقاءه أفراحهم وأتراحهم ... تراه يخرج من اجتماع ليدخل في اجتماع آخر ويخرج من عمل ليدخل في عمل آخر، وكل ذلك بصمت حتى أن من لا يعرفه يعتبره شخصاً عادياً غير ذي أهمية. حقاً، وكما قيل إن برحيل أمثال هؤلاء تصبح الحياة ناقصة, وحقاً أن العظماء لا يعمرون طويلاً فهم يؤدون رسالتهم بسرعة ويمرون في هذه الحياة مرور الكرام, وحقاً إن أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا قليلاً, وحقاً إن ما عند الله خير للذين آمنوا وكانوا يتقون. كنت على اتصال بالفقيد أثناء علاجه في القاهرة، وكان من ضمن ما قال لي عندما ذكرته بأجر الابتلاء وأن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل, قال إنه استفاد من المرض في التعلق بالله والصلة به أكثر مما استفاد من الحج والعمرة، فقلت له نعم فإن الحج والعمرة قد يدخل فيهما الرياء والمباهاة والمفاخرة بالوصول إلى الأراضي المقدسة, أما المرض فيجلب الانكسار لله عز وجل، كما ورد في الحديث القدسي «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي». وعندما ذكرت له الشوق إلى رؤيته، وإن أذن لي في زيارته إلى مصر فسوف أستأذن من عملي في الجامعة وآتيه، قال لي إنه سيأتي إلى السعودية للعمرة في شهر رجب القادم مع والدته وسيزورنا، نية صالحة منعه من الوفاء بها قضاء الله الذي لا رادّ لحكمه ونية المؤمن خير من عمله. وختاماً: سلام عليك يا محمد، فما كنت أظنني أعيش إلى زمن أكتب فيه نعيك، ولكن إن عزّ اللقاء في الدنيا فلنا في الله أمل أن يجمعنا في دار لا بؤس فيها ولا حزن ولا موت. كذا فليجلّ الخطب و ليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السَّفَر السِّفْر عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر