قليلون من أصدقائي يقرون بحقيقة أنهم ليسوا شعراء بالنسبة للبقية فمتأكدين أن ما يميز موليير عنهم الحظ ودور النشر, أما القصيدة فهي تبحث عن من يلقيها أحيانا تهبط في باريس أو القاهرة وكثيرا في صنعاء. كل هذا يطمئنني على مستقبل الشعر في بلد نعرف عن ماضية مئات أضعاف ما نعرفه عن مستقبلة ما يخيفني هو سرعة تحول البعض إلى شاعر كبير يغضب عندما لا يفتنني ما يقول ويرميني بالتهمة الجاهزة أنت لا تفهم بالقصيدة وهو عيب أصبحت أحب ان أبدو عليه كي أهرب من الاستماع الطويل، عندما كنا نعيش في غرفة غالبية سكانها من الشعراء الجدد كنت أقضي معظم الليالي مستمعا للدواوين التي يخدمكم القدر بعدم صدورها لكني كنت المودف الوحيد, أهز راسي فيعتقد الشاعر إعجابي ويزيدني مما أعطته تخزينه النهار إلى الحد الذي وصل بأحدهم أن يوقظني تمام الثالثة والنصف فجراً وفزعاً نهضت شاكاً ان حريقا قد التهم المبني الذي تقع غرفتنا فيه وحين رمق ريبي طافت ابتسامه على محياه «قوم اسمع لك قصيدة جديد». تلك الليلة بالكاد عثرت على نومها وها أنا اجلس القرفصاء مصغيا للقصيدة الطويلة التي أحرمتني النوم, حين انتهى من تعذيبي سألته: هل كانت هذه الكلمات عاجزة عن الانتظار حتى الصباح كي ترقص أمامي وارى أولها من آخرها؟, ابتسم وتدثر ببطانيته وتركني مع أبياته المدمجة, ولما حاولت إيقاظه لأتلو عليه ما جاءني من الشعر باعتباري أسكن غرفة تبدوا للغريب فرعا لاتحاد الأدباء يرفض الاستيقاظ رغم أنى اخبره أنى متأثر بتجربته والأبيات التي تأتيني ماهي إلا تكمله لقصائده العصماء ومع ذلك يردد «مش وقتك» طبعا لم أكن كتبت أى شي ولا علاقة لي بما ينشره أصدقائي، في اليوم التالي أطلب إليه ان يقرأ ما جاءه ليلة البارحة فينال تقديري وتظهر الأبيات أكثر جمالا مما بدت عليه ساعة فزعي، كل تلك الأحداث جعلتني اقتنع بالهروب من كل ما يشبه الشعر والخروج من سوق عكاظ الذي كان يحييه الصحبة كل ليلة، واكتفيت بطلب نسخة من الديوان الصادر، وأجد نفسي في متعه واسعة وأنا أشارك الأديب لحظته ومشاعره ولغته ويحسسني ذلك بقوة ما ينتج في هذه الأرض التي تجعل من شعرائها باحثين عن مستمع وان كان وحيداً، لا مكان يلقى الشعراء فيه إنتاجهم غير سلة مهملات الصحف الشللية أو مركز «عبادي» الذي يغير مقره باستمرار ربما هرباً من بعض القصائد على غرار: حريق في الفؤاد من التجافي ومن عينيكِ خرطوم المطافي وتعود ملكيه البيت إلى مذيع وشاعر والواضح انه كان أحد الجيران الدائمين للدفاع المدني ويعرف معنى وجود ماء في خراطيم المطافئ. في إحدى الأحداث المتصلة قبض على شاعر غزير الإنتاج وبمجرد ان سرت معه قليلا دخل إلى محل تجارى لقريبة واخرج ثلاثة دواوين كل واحد أكبر وأوسع من الآخر، قلت له مازحا «هذه المرة بيت كامل». من حقه ان يصدر كل يوم ديوان ومن حقنا استخدام الجهة البيضاء في الورقة لمراجعة دروس أطفالنا وبالفعل هناك دواوين ليتها تهدى إلينا ممتلئة بالورق غير المكتوب عليه والذي ستكون فائدته أعظم ويمكن ان يكتب المؤلف اسمه على الغلاف وقصيدة أو حتى بيت تفي بكل ما يريد ان يقوله. على الضفة الأخرى مبدعون محرمون من الوصول إلى النشر بأعمالهم الرائعة, أُصاب بالجنون اللذيذ أثناء قراءة مسودة لرواية كتبها الزميل جمال حسن ولم يتمكن من طباعتها لا في الشروق ولا الغروب وأتمنى دائما في كل تكرار للقراءة لو ان الناس يرون ما أرى, روحاً روائية تجعلك تنسي أن لك أقدام وأيدي تحتاج لتحريكهن بين لحظة وأخرى, يجعلك تنسى وجودك ومع هذا أثق ان خمس سنوات أخرى ستمر وجمال مازال بعيدا عنكم محصورا بقراءة خالد طربوش ومطيع دماج وطبعا أنا المحظوظ بالنظرة الأولى إلى شخصياته التي لا يتمكن غيره من خلقها. وبالعودة إلى الشعر حاول محمد الجرادي ومحمود الهجري جعلي في رحلة جماعية أتقمص دور الشاعر وأكثروا من التدقيق في كل كلمة أقولها ضمن أحاديثنا وهم يقسمون أنها بيت ويقفز الهجري مقاطعا «هذا ما بعد الحداثة, لحظة نكتب بعدك» حتى وصلوا إلى تشجيعي لإصدار ديوان وبدوا بمطالبتي بتسميته فريت أن يحمل اسم «ديوان فيه شعر» ووعد الهجري ان يكتب ست حلقات تحليلية للعنوان فقط بعدها سينتقل إلى ما في الداخل وسيتولى الجرادي تتبع الصور الفنية في الديوان حسب الاتفاق الذي نكثت به لأنه لا يوجد ديوان أصلا ولست جاهزا لأبدو شاعر ليل يريد ان يطير الضجر إلى رؤوس القراء الطيبين، هكذا إذاً يصنع الشعراء المستعجل همست لمحمود الذي رد ان له قصائد أضاعها قبل ان يأتي إلى العاصمة لكنه توقف وكانت نواياه ان يرمي بي إلى ما بعد الحداثة حتى ولو لم أتقن الشعر وتركيب العبارات وقلبها.