أغرب ما في مباراة مصر والجزائر أنها كانت عنواناً للهزيمة أكثر منها لافتة انتصار. الهزيمة التي أشير إليها هي التي حلت بالأمة جمعاء، فيما لم يستفد من النصر الجزائري سوى نفر معدودين إذا قيسوا بما خسره الجميع، بما فيهم الجانب المنتصر.
*** موقع إنقاذ مصر نشر تقريراً حول صفقة ضخمة لطائرات أميركية بيعت للجزائر كان مقرراً أن يحصل على عمولتها علاء نجل الرئيس المصري حسني مبارك باعتباره وكيل شركة "لوكهيد مارتين – Lockheed Martin" في المنطقة. بيد أنها انتهت – قبل المباراة ببضعة أشهر – بدخول سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس الجزائري على الخط، ليجني تلك العمولة المقدرة بنحو مئة مليون دولار أميركي (100.000.000 $). ولذلك فإن علاء كان أبرز من أسهموا في الحملة الإعلامية ضد الجزائر (الدولة، وليس الفريق فحسب). ورغم أنه من غير المعروف عنه إعلانه لمواقفه "الوطنية"، فإن تعليقاته المفرطة في السوقية كانت سبباً في ارتفاع شعبيته بين العوام من أنصار المنتخب المصري لدرجة مطالبتهم بتوريثه الحكم عوضاً عن شقيقه جمال (يا سلام!).
إلا أنني أزعم أنه حتى لو كان هذا الخبر مكذوباً، فإن الخسارة التي حاقت بنا تبقى فادحة. وحيث قالت العرب قديماً "رُبَّ ضارةٍ نافعة" فعساه من المفيد التوقف عند بعض دروسها، عساها تساعدنا في النضج مستقبلاً.
*** أول تلك الدروس أن ما ظهر على السطح لم يكن انعكاساً لمباراة كرة قدم فحسب. ولقد علمتنا التجارب أننا دائماً ما نلبس مشاكلنا أردية تغطي حقيقتها. فترى صراعاتنا المذهبية والطائفية والكروية مجرد غطاء لترَدِّي أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. ونظرة عابرة للبلدين تبين معاناة أبنائهما من افتقار للحرية والعدالة والحقوق الأساسية، ناهيك عن عَوَز القابعين دون خط الفقر.
ولأن حرية التعبير والانتصار للذات مستحيلان في المساحات المغتصبة من الدولة، فإن ميدان الكرة يبدو أكثر شفافية وقدرة على احتواء صرخات الراغبين في الانتصار، أيّ انتصار.
وفشل الحكومات المزري في تحقيق أشواق أبناء الأمة وتطلعاتهم لا بد أن يخفض سقف أهدافنا ليصل إلى القدمين، كما هو الحال. فالطاقات معطلة، والإرادة مستلبة، والحقوق مغتصبة، والفساد مستشر، وكل أرباب الحكم ينادي "نفسي، نفسي". وحدَه الفريق الوطني من يمتلك القدرة على التعبير عن حلم مشترك لدى الجميع، يشعر من خلاله أبناء الوطن بأن ثمة رابطا – غير الظلم – يجمعهم حول قضية مشتركة.
ولقد علق أحد المثقفين على ما جرى بقوله (لقد كنا في السابق نقف مع مصر حتى وهي مخطئة، فإذا بنا الآن نتصيد لها الأخطاء حتى لو كانت محقة). وهو تعبير صادق عما تشعر به الأمة جميعاً تجاه الدولة الأهم في المنظومة العربية، والتي ما فتئت تنسحب شيئاً فشيئاً من الصدارة التي هي أهلٌ لها ليمسي شعارها (مصر أولاً)، بل (مصر فوق الجميع) كما نشر في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير. وهي شعارات تشي بالعجز أكثر مما تدل على القوة. ولذلك فإن الطبيعي أن يستميت أنصار المنتخب المصري في مؤازرته، باعتباره الرمز الباقي لمكانة مصر في الأمة، حتى لو اقتصرت على كرة القدم.
*** درس آخر يعنينا في هذه التجربة أن شعوبنا بأمس الحاجة للفرحة، بيد أننا بحاجة لتصويب طبيعة الفرح وتوقيته وكيفيته.
إذ من المعيب لتاريخ أمتنا وحاضرها، بل ومستقبلها، أن تقتصر مساحة الفرحة لدينا على فعالية رياضية (لاحظ أننا نتحدث عن التأهل لكأس العالم لا الفوز به). كما أن توقيت التعبير عن الفرح مهم أيضاً، لأننا قد نخسر أكثر مما نكسب حين نعبر عن فرحنا بهزيمة الأشقاء. ولنا في المدرب الهولندي غوس هيدينك نموذجاً حضارياً، حيث لم يحتفل مع المنتخب الروسي الذي يدربه عندما فاز على نظيره الهولندي الذي ينتمي إليه بحكم المواطنة. إذ أدركَ أن مشاعر مواطنيه أعز عليه من احتفال بانتصار كروي.
ناهيك طبعاً عن كيفية التعبير عن ذلك النصر. فمجرد أن تكون هناك خسارة في الأرواح أو إصابات في الأبدان، فضلاً عن المشاعر، فإن ذلك مؤشر واضح على سوء ترتيب أولوياتنا حيث بتنا نعلق حيواتنا على أقدام غيرنا. أما الحديث عن الروح الرياضية، فلعله بات مجرد نكتة سمجة لا تضحك أحداً. فالرياضة كما نرى لم تعد مجرد منافسة شريفة تدفع المرء إلى الامتياز والتحكم في النفس وإتقان المهارات. إنما تحولت إلى شماعة نعلق عليها كل آمالنا المنسية وأحلامنا الضائعة. ولذلك فإن الخسارة أمست أشبه بحكم الإعدام في منظور شعوبنا المسكينة.
أخيراً، فإننا نحتاج إلى مراجعة دور النخبة وحقيقة وجودهم أصلاً. فما صدر عن عديد الإعلاميين والفنانين كان سبباً في توسيع نطاق الأزمة، بل وإشعالها من قبل البعض. وهذا يعني أن من يُتوقع منهم قيادتنا للرقي كانوا سبباً في توجيهنا للحضيض بتعليقاتهم عديمة المسؤولية. وإذا كانت الحكمة تقول (ذلّ قومٌ ما فيهم سفيه) فليس من الحكمة أن تتحول النخبة إلى قطيع من السفهاء.
أما العقلاء، فإنهم كما جرت العادة جاؤوا متأخرين كثيراً، خافتين جداً. وكان الأحرى بهم توقع الأزمة والعمل على احتوائها قبل أن تنشب النار في الجموع، فلا نعرف القاتل من الضحية.
*** السؤال الآن: ما العمل؟ بداية، فإننا بحاجة إلى تقوية عضلات الأمة الهزيلة في جوانب عدة (الروح الرياضية واحدة منها) حتى نتمكن من تجنب أزمة كتلك مستقبلاً. فقدرتنا على تحديد أولوياتنا وترتيبها، وإدراكنا للمشترك بين شعوبنا، وتعاطينا مع إعلام الفتنة ينبغي أن يتغير قبل أن نطالب من شاركوا في الموقعة بالتعقل.
ثم إن الواضح أننا بأمس الحاجة إلى مشروع ينهض بالأمة، فيَلمّ شتاتها ويستجمع طاقات أبنائها ويرتقي لمستوى تطلعاتها. ذلك أن البسمة التي سترتسم على الشفاه جراء التأهل لكأس العالم لن تلبث أن تخبو عند العودة إلى واقع البطون الجائعة والجيوب الخاوية. وحالما نعمل على مشروع يناسب حجم الأمة الحقيقي، فإن منافسات رياضية كتلك ستعود إلى حجمها الطبيعي.
*** لقد زكمت النتانة أنوف الجميع. وأول ما نحتاجه للتمكن من إعادة الأمور إلى نصابها أن نسمع لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم حين دعانا قائلاً "دَعُوهَا، فإنَّها مُنتِنة". والله أعلى وأعلم.