من المفارقات اللطيفة أن الثورة في اليمن لم تستهدف حزب المؤتمر الشعبي العام كتيار سياسي ارتبط بالنظام السابق ولم تحمله مسؤولية الفساد الرهيب الذي كان سببا في قيامها كما حصل في مصر مع الحزب الوطني وفي تونس مع التجمّع الدستوري الديمقراطي. في مصر، ينص الدستور الجديد صراحة على استبعاد أعضاء الحزب في المراكز القيادية لعشر سنين من العمل السياسي, قبل الدستور كان قانون العزل، أما في تونس فقد تعرض حزب التجمع للحل, وفي كلا الدولتين تجري حاليا مطاردات محلية ودولية لاستعادة الأموال ومحاكمة المتورطين بالفساد والقتل.
في اليمن، كانت الثورة تعبّر عن نفسها بأكثر من طريقة في اتجاه عائلة بعينها ترى أنها هي الأس والأساس في إحداث الخراب؛ ربما كانت الجماهير الغاضبة تتعامل مع المؤتمر الشعبي باعتباره أحد الضحايا وليس أكثر. في الحقيقة كانت المبادرة الخليجية بمثابة طوق النجاة للمؤتمر ككل ولعائلة صالح بصفة خاصة, لكنهم حاليا يلفون هذا الطوق على أعناقهم في انتحار أراد صالح أن يكون جماعيا.
حاليا يمر المؤتمر الشعبي بمفترق طرق، خصوصا بعد أن آلت الأمور إلى الرئيس هادي ضمن تسوية سياسية اقترحتها المبادرة الخليجية. هذا المفترق الكبير في تاريخ هذا الحزب من المتوقع أن يحسم ليس فقط مستقبل الحزب بل تاريخه أيضا وبشكل نهائي.
مفترق الاختيار بين الرئيس هادي كي يبقى الحزب فاعلا على الحياة السياسية وبين صالح الذي لا يفكِّر الآن سوى في تسوية وضعه ومستقبله على حساب وضع المؤتمر.
"صالح هو المؤتمر", هكذا يقول أنصاره، وعلى أنصار المؤتمر أن تكون لهم كلمة الفصل؛ لأن صالح وبما اقترفت يداه قد أحاطت به خطيئته وسيذهب بما تبقى لهذا الحزب مع الريح.
يشكل حزب المؤتمر حاليا الحديقة الخلفية لصالح وعائلته. في الحقيقة هذا الحزب هو الواجهة السياسية وربما الوحيدة التي يمكن أن تسمح لصالح أن يطل من جديد بعدما فقد الكثير في الواجهات العسكرية والأمنية والتعيينات السياسية في الدولة.
صالح قد استسلم للثورة وتحت ضغوط داخلية وخارجية، وهو حاليا مع العائلة يرتّب لنفوذ من نوع جديد, واجهات إعلامية عملاقة تتبنّى دور المعارضة, أو بناء امبراطوريات مالية كبيرة تسمح لنفوذ سياسي من أي نوع.
لن يكون دور المؤتمر في المعارضة مجديا إذا استمر صالح أو أحد مقربيه, لن يكون قادرا على الحديث عن الفساد الذي طالما غرق فيه وسيضطر في كل مرة كي يثبت صحة ما يقول أن ينشر شيئا من غسيله، كما بدأ يحدث مع بعض الصحف التي تفتح ملفات الماضي، ومعها لا تقدر إلا على إدانة الجميع وعلى الطريقة البدائية (عليّ وعلى أعدائي ).
سيصرخ بك أحدهم "هذه شؤون داخلية في المؤتمر وليس عليكم مهمة إصلاحه"، هذه طريقة غبية في المحاججة؛ لأن بقاء هذا الرجل العائلة والمشروع والقضية يسبب كوارث حقيقية ليس فقط على المؤتمر بل على اليمن برمّته، سأتعرض هنا لبعضها فقط:
-يعتقد كثير من المراقبين بأن بقاء صالح على رأس المؤتمر سيدفعه إلى حالة من الحرب مع القيادة الجديدة، كانت بوادرها واضحة لأي مراقب خلال الفترة الماضية. في مقابلته الأخيرة مع الفضائية اليمنية ألمح السفير الأمريكي إلى أن تقليدا جرى في العالم أن الرئيس السابق عليه أن يغادر المشهد كي يترك الفرصة للقيادة الجديدة. في النتيجة أي أعمال تخريب أو عنف أو اغتيالات سيجري التعامل معها من قبل الجميع على أنها من صنع الرجل، حتى لو كان منها براء، والرجل في النهاية يعني "الحزب". وحين تحين الانتخابات القادمة سيعدد الناس إنجازات الحزب الذي قامت ضده الثورة ثم تحول لمأوى للمخربين.
لا أعتقد بأن المؤتمر يرضى بهذه النهاية، وهو ما يدفع بالكثير من القيادات الكبيرة في المؤتمر لتبنِّي مبادرات لإنقاذ الحزب من أحقاد صالح وتهوراته؛ ليس آخرها مبادرة الفرصة الأخيرة التي قدّمها عبد السلام العنسي مؤخرا اقترح فيها بوضوح أن يتخلى المؤتمر عن صالح، وأن ينصّب هادي رئيسا له. سينسى المتهورون في المؤتمر أن العنسي أحد المؤسسين للمؤتمر، ومن السهل اتهامه بأنه من الإخوان المسلمين، على الرغم من أنه وصف الرجل باللقب الجديد "الزعيم". وهذه التهمة تمنحهم راحة الضمير وتعفي عقولهم من استحقاقات التفكير في مستقبلهم المجهول. قديما قيل "وليس رئيس القوم من يحمل الحقد"، وهذا الرجل ليس من السهل أن ينسى.
-على الصعيد الدولي، ثمة ما يشبه الإجماع على استقرار اليمن، وثمة إجماع أيضا على أن صالح هو سبب رئيس في تداعي هذا الاستقرار. مركز أبحاث الكونجرس يعنون إحدى فقرات التقرير "الحرب الأهلية أو الخروج الناعم لصالح". في تقريره الأخير كان يتحدث عن القوات الموالية لصالح التي هاجمت وزارة الدِّفاع وقبلها "الداخلية".
قرأنا كثيرا في الصحف عن هجوم يشنه المؤتمر على السفير الألماني مطالبا بطرده, ومهاجمة "الجندي" لفرنسا على خلفية حديثها عن تجميد أموال صالح, وتصريحات ناشطون "إن على صالح وعائلته الكف عن رهن مستقبل اليمن بأيديهم".
سيمضي المؤتمر لاستعداء العالم على طريقة المراهقين, المهم هو ألاّ يتخلى المؤتمر عن "الزعيم", هذا ليس لونا من الوفاء بقدر ما هو شكل من أشكال غياب العقل وحضور العاطفة. لا أدرى إن كانت العاطفة هي التعبير الأنسب أم المصلحة!!
سيساوم صالح عن نفسه وعائلته ويحاول ترتيب أوراق مستقبله الخاص, وسيركب حصان المؤتمر ليحقق هذا الغرض، وحين ينتهي سيترك أولئك الأوفياء الأغبياء حتى دون فتات ودون مستقبل.
-من المتوقع أن يبحث صالح – حال بقائه رئيسا للحزب – عن تحالفات جديدة تتعارض تماما مع الدور الوطني للمؤتمر وحتى مع تاريخه القريب. في الأثناء يلحظ الجميع حالة من التحالف والتماهي بين صالح وبين جماعة الحوثي, تلك الجماعة التي خاض نظام صالح معها ستة حروب ولعدة سنوات بتهمة التمرّد على الشرعية والدولة. هنا سيتحول الحزب من الحاكم ليكسب صفة التمرّد, هذه التسمية هو من أطلقها على كثيرين وربما تنتهي به الأيام بوصفه متمردا. وبدلا من أن يخرج وحده بهذا اللقب سيجر خلفه هذا الحزب بكل تاريخه السالب والموجب.
ثمة مطالبات من بعض الأشخاص الذين اشتراهم صالح ووضعهم في صفِّه لجعل هذا التحالف (المؤتمر والحوثي وتيار البيض) علنيا، وبأن عليهم ألاّ يخجلوا -بحسب تعبير الاعلامية رحمة حجيرة التي أكدت أن المؤتمر يتعرض لما أسمته "التكالب" الدولي والداخلي لإضعافه، هي تفهم أن المؤتمر هو عائلة صالح، وهذا العالم كله يتكالب عليه!!
لست أفهم هذه الرؤية العدمية ولا أتخيل هذه الردة السوداء. سيتحالف صالح (المؤتمر) مع البيض لإنفاذ فكرة الانفصال وسيتحالف مع الحوثي لإعادة دور السلالة والكهنوت التي طالما اعتبر صالح نفسه مخلصا للوطن منها، ويسردها في قائمة منجزاته.
لا أعتقد بأن عاقلا في المؤتمر أو غيره سيقبل بهذه الردة, والمؤتمر في المادة الخامسة من نظامه الداخلي ينص على: "القضاء على التخلف وموروثات الإمامة والاستعمار وكل آثار التعصبات الطائفية والمناطقية والسلالية".
-حين يقود صالح الحزب فإن الواجهة الجديدة ستكون هي واجهة الحوثي. مؤخرا جرت الأمور بهذه الصورة, يذوب المؤتمر تحت غطاء الحوثي, يتحرك صالح (وليس المؤتمر) وأنصاره ضمن برقع الحوثي, التعليمات كانت "ارفعوا الصرخة في كل مكان", في محاولة لجر البلاد كلها إلى فتنة طائفية ومذهبية، والتي إن قامت فإن الجميع سيكونون وقودا لها بمن فيهم أصحاب الصرخة أيضا, وهذا اللون من الفتن هو تسونامي حقيقي لا يتوقف حتى يدمّر كل ما يمر به وربما تتحول اليمن - وهي مرشحة حاليا لهذا الدور- إلى منطقة صراع إقليمي بين دول إقليمية سنية وشيعية (سعودية وإيرانية)، السعودية ومعها تحالفاتها الدولية وإيران كذلك، ويبدأ سيناريو سوريا بالتحقق هنا على الأرض اليمنية.
صالح ومعه المؤتمر هو مفتاح هذا الشر، وعلى الجميع أن يسعى في مهمة الإنقاذ. فلو تحولت رئاسة المؤتمر لهادي لتحول المؤتمر إلى مركز جديد للاستقطاب والمُعارضة قد يحقق التوازن في البلد، ويمنع خطر الانزلاق إلى فتن طائفية.
حاليا يشكل الحوثي هذا المركز ويستقطب بعض الغاضبين والمعارضين. فاللقاء المشترك المعارض أصبح شريكا في الحكم, والمؤتمر في حالة من الغياب, وليس غير الحوثي يملأ فراغ المعارضة ويتبناه, وهو بالنهاية تيار ديني سيعمل على تأجيج الصراعات، وستُفهم في كل الأحوال على أنها طائفية ومذهبية, والشواهد تلوح في الأفق، ولا تخفى على مراقب.
-ضمن حزمة قرارات الهيكلة التي لاقت ارتياحا كبيرا ربما سيُسهم إلى حد كبير في تخفيف التوتر في الشارع الجنوبي وسيمنح الشارع الجنوبي بعض الأمل.
التخلص من الأحمر وأحمد علي وقبلهما صالح يبعث الاطمئنان لدى الكثير من أبناء الجنوب؛ باعتبار ارتباط هذه الشخصيات بخلفيات القضية, لكن عودة صالح ستدمر كل هذه الأجواء وسيكون هو داعية الانفصال الأول. سيتحمل المؤتمر هذا الوزر الكبير في النهاية, أما صالح فقد أدرك أنه وصل إلى النهاية ولم يعد المؤتمر بالنسبة له سوى حصان طروادة يمرر من خلاله بعض المكاسب الخاصة.
لست أفهم تصريحات المؤتمر بأن "الزعيم" - بحسب التصريحات- سيكون على رأس فريق المؤتمر في الحوار الوطني، إلا إعلان حرب على الوطن كله وعلى القضية الجنوبية بشكل خاص، باعتباره سببها الأول.
هذه مقدِّمات ضرورية تجعل من خطر بقاء الرجل على رأس المؤتمر مسألة جديرة بالحسم. و أعتقد بأن الرئيس هادي يفهم تماما هذه الأبعاد، وأعتقد أيضا بأن على بقية عقلاء المؤتمر أن يفهموا أن هناك فرقا بين الفرد والحزب وبالتالي بين صالح وبين المؤتمر.
لكن المهمة الكبرى تقع على الرئيس هادي، ليس باعتباره مؤتمريا فحسب بل رئيسا للجمهورية، وهذا الحزب ارتبط بشكل كبير منذ لحظة التأسيس برئاسة الدولة والسلطة والحكم, وبالتالي فليس أحد يقدر على مهمّة الإنقاذ سوى الرئيس هادي.