لا يمكن أن أفهم طبيعة الحراك السلمي في جنوب اليمن إلا بكونه نتيجة لأسباب انتجتها الآلة الاقصائية والعصبوية للنظام، ولما كان الحراك بسلميته قد سجل ظاهرة فريدة في مسيرة نضال اليمنيين فهو أسس لأرضية صلبة ساهمت في انطلاق ثورة الشباب على امتداد البلاد ليشكلان معاً حدثاً هاماً في تاريخ اليمن المعاصر في الطريق نحو اسقاط الاستبداد وبناء الدولة اليمنية الثالثة والضامنة لحقوق الجميع. ولأن النخب السياسية، التي قفزت إلى مشهد الثورة، لم تستوعب إلى الآن فكرة الثورة الشعبية باعتبارها مشروع انقاذ وطني جامع، فإنها تظل تتعامل مع القضايا الوطنية بنفس الطريقة السابقة والأسلوب الخاطئ في المعالجة، وفي المقدمة منها القضية الجنوبية، وبالتالي هي تساهم في توسيع دائرة التذمّر والإحباط لدى الناس في الشمال قبل الجنوب، إذ أنها لم تنجح إلى الآن في ايجاد خطاب سياسي وإعلامي توحيدي وجامع يتّجه بتطلعات الناس صوب هدف بناء الدولة المنشودة، بل بالعكس فقد كشفت خلال المُدة المنقضية من عُمر العملية الانتقالية عن عقم شديد في الأداء العام وفي الخطاب السياسي والإعلامي، فماذا يمكن لنخبة سياسية أن تقدّم من تصورات لحل مشاكل البلاد إن كانت ارتضت لنفسها لعب دور الموظّف في إطار مبادرة من عشرة أسطر أو أقل تحولت إلى حاكم خفي، بينما ينتظر الناس حلولاً عاجلة لمشاكلهم الحياتية، وهذا ما لم تورده المبادرة، ووقفت النخب عاجزة عن الإيفاء به؟
لا يمكن أن نقلل من أهمية المرحلة الانتقالية ووجوب التوافق الوطني فيها وخلال المرحلة المقبلة، إذ أن اليمن بحاجة لتوافق طويل المدى، لكن كان يفترض أن يرتقي التوافق ليلامس فكرة ومشروع الثورة لا ما هو أقل منها.. فالأحزاب هي أداة من أدوات الثورة، والقوى الثورية الأخرى هي أدوات أيضا، كما هو حال المنضمين إليها، وبالتالي فإن خطاب الثورة وفكرتها التوحيدية هي التي ينبغي أن تسود في هذه المرحلة لا خطاب النّخب والقوى السياسية التفكيكي والتحريضي والعصبوي الذي يختزل الثورة داخله ويقصي الآخرين، كما يحدث تجاه الحراك الآن الذي يعد شريكاً أساسياً في الثورة اليمنية الممتدة من الشمال إلى الجنوب، ثم يطلع علينا نفر من النخب "المعتقة" ليقول إن "الوحدة في خطر"، متجاهلاً أنه ساهم في انتاج الأسباب التي أوجدت القضية الجنوبية والحراك السلمي في صورة تكشف جلياً أن من كانوا جزاءً من المشكلة لا يُمكن أن يكونوا جزاءً من الحل على الإطلاق.
واعتقد بأنه من الواجب على شباب الثورة الذين اسهموا في إطلاق الحدث الثوري التاريخي، وكلهم أمل أن يتكلل بإيجاد حلول لكل المشاكل والقضايا ذات الطابع المعيشي والوطني، أن يطلقوا رسائل تطمين لشعبهم في الشمال والجنوب بأن الثورة ما تزال مستمرة، وأن الطريق ما يزال طويلا لتحقيق تطلعاتهم في بناء الدولة الوطنية المنشودة التي تحفظ اليمن من التمزّق والتفكك والاحتراب الذي لن يسلم منه أحد، وتعلي من قيمة وكرامة المواطن اليمني أينما كان، وما على شعبنا إلا الصبر والثبات والحفاظ على نهجه السلمي في النضال المشروع وعدم السماح للقوى العاجزة بالدّفع به نحو العنف ليسهل لها القضاء على مكاسبه الوطنية الكبيرة في النضال من أجل يمن ديمقراطي مدني وحُر، إذ لا مستقبل لليمنيين إلا في وطن كبير يحقق آمالهم وتطلعاتهم، والوصول إليه بعد كل هذه التضحيات شمالاً وجنوباً بات ممكناً - بإذن الله وإرادته التي لا غالب لها.