هذا دليل آخر على وجود مصلحة مشتركة في كراهية ثورة فبراير الشعبية بين بقايا النظام السابق والحراك الانفصالي.. فخلال أسبوع واحد قرروا إفشال احتفالين بذكرى الثورة؛ الأول في عدن، والآخر في سنحان. الدلالة الخاصة للمحاولتين تمكن ملاحظتها في الأهمية المعنوية لمكان الاحتفالين؛ ففي عدن تكمن أهمية الاحتفال بذكرى الثورة أنها توجه رسالة واضحة لجميع الأطراف أن عدن –ومعها سائر الجنوب- ليست كلها مع الانفصال كما يصر على القول به الخطاب الانفصالي.. وهذا الأمر مهم جدا؛ لأن مؤامرة الانفصال تعرف أن الجنوب بدون عدن لا يساوي شيئا، ولهذا تظهر عصبية الانفصاليين بحدّة كلما جرى الاحتفال بأي مناسبة تحمل روح الوطن الواحد، والانتماء الواحد، والتاريخ الواحد!
هذا المأزق الذي يواجهه مشروع الانفصال في عدن موجود أيضا في منطقة أخرى مهمة هي حضرموت؛ فبالإضافة إلى دعوة العصبة الحضرمية الرافضة لفكر الانتماء للجنوب والشمال على حد سواء؛ فإن ذكريات أهل حضرموت المريرة مع النظام الحاكم ما قبل الوحدة ليست هينة، وخاصة أن أبرز رموز مشروع الانفصال اليوم هم من الرموز السياسية أو من العسكريين والأمنيين لتلك الفترة سيئة السمعة.. وجنوب بدون حضرموتوعدن والمهرة سيكون خزانا لجيوش يأجوج ومأجوج ومغول لا يفهمون في التعامل مع الآخرين إلا بالسيف، وهو ما صار واضحا أمام المواطنين مع ازدياد توحش دعاة الانفصال، وممارساتهم العنيفة والإقصائية ضد الآخرين!
وللتنبيه فقط؛ فنحن نتحدث عن المناطق ذات الأهمية الأكبر، أما في الواقع فإن رفض الانفصال موجود في كل أرض الجنوب اليمني، وإن كانت ملابسات العهد الماضي (عندما كان نظام صالح يتصدّى لتبني الدفاع عن الوحدة ورفع شعاراتها) قد ألجمت كثيرين –حتى في الشمال- عن إبداء مواقفهم من الانفصال كرها في النظام، وخشية اتهامهم بالعمالة لحكام صنعاء!
*** أما دلالة محاولة إفشال الاحتفال بذكرى الثورة في سنحان.. فتتعلق بالنظام السابق، وربما بحلفائه الحوثيين الجدد، لأنها تعني أن سنحان أو (درعا) اليمنية – بدأت الثورة السورية من درعا التي كان يطلق عليها: خزان البعث، وشاء الله أن تكون منطلق الثورة عليه!- ليست كلها مع النظام السابق رغم أن أبرز رموزه ينتمون إليها. الحوثة أيضا يجدون في الحشود الشعبية الكبيرة التي احتشدت في سنحان؛ ومن قبلها في أرحب، وهمدان، والحيمتين، وبني حشيش وغيرها؛ معاني يفهمونها جيدا.. فأبناء القبائل تجاوزوا عقدة العصبية المقيتة التي كان الحكام يراهنون دائما عليها لتمكين سلطانهم، وتاريخ الإمامة في ذلك مشهور، وتاريخ الأئمة الجدد أيضا معروف.. ولا شك أن الذين ظنوا أنهم قد امتلكوا المناطق القبلية بدعوى العصبية المذهبية أو القبلية سيفاجأون كثيرا وهم يرون الحشود الكبيرة التي تخرج لتحتفل: لا من أجل سيدي فلان.. ولا من أجل الزعيم الملهم ابن قريتي.. ولكن من أجل قيم ومبادئ تهم اليمن الكبير، وتدل على وعي تجاوز الحدود القديمة: مذهبيا وجغرافيا!
نجاح مهرجان الاحتفال بالثورة في سنحان وبني بهلول وبلاد الروس رغم التقطعات يتوافق مع إصرار المواطنين في عدن على إقامة احتفالهم رغم تهديدات انفصاليي البيض!
توافقت إرادة الشعب الأبي.. وتشابهت أحقاد الطامعين والمتكبرين.
لكن ثمة مشكلة عرضية ظهرت على هامش جريمة عدن؛ فالذين صدعوا الدنيا حديثا عن حضارية عدن وسلميتها ورفضها للعنف، واحتضانها للجميع؛ هؤلاء هم الذين بخلوا على مواطني عدن الذين تعرضوا للاعتداء من قبل بلاطجة الحراك المسلح الانفصالي بدعم واضح، اكتفوا بالحديث عن رفض العنف أيا كان مصدره، وساووا في الرفض بين الذين أقاموا فعالية سلمية للاحتفال بذكرى 11 فبراير وبين البلاطجة الذين هددوهم من مخابئهم في الجبال، وساووا بين من تعرضوا للاعتداء وبين الذين جاءوا مثل قطعان المستوطنين معتدين على مواطنين يستخدمون حقا طبيعيا لهم كما تعلموا في مدرسة.. اللقاء المشترك! وحتى الاعتداء على مقر الإصلاح حليفهم أصروا على عدم ذكره صراحة، واكتفوا فقط بالإشارة إلى (الاعتداء على مقرات حزبية)، وكأنه كانت هناك مقرات حزبية أخرى تعرضت للاعتداء غير مقر الإصلاح!
محظوظ جدا هذا الحراك الانفصالي المسلح، الذي تنزل جرائمه على صدور البعض في السلطة والمشترك بردا وسلاما، فلا يجدون أنه يستحق حتى عتابا واضحا؛ فضلا عن إدانة صريحة.. فيصنعون مثل مجلس الأمن فيلجأون إلى تشكيل لجان للتحقيق، وإدانة كل الأطراف دون تمييز بين معتد ومعتدى عليه، والدعوة إلى الهدوء والسلم (وسماح يا عين، وكل واحد يصلح سيارته..) وفي الأخير تخرج إسرائيل -أقصد المعتدين المسلحين الانفصاليين- بريئة أو تحصل على لوم يساوي اللوم الموجه لضحاياها!
بالمكشوف؛ لا يستحق الاعتداء على تجمع سلمي لإصلاحيين ومقر لحزبهم ولو جزءا بسيطا من الاهتمام والغيرة الفورية؛ المحمودة في كل حال؛ التي أبدتها أحزاب؛ يمتلئ خطابها السياسي والإعلامي بالبكاء على عدن؛ تجاه اعتداءات أخرى يتعرض لها مواطنون في كل اليمن؛ وآخرها الاعتداء الظالم على المعتصمين أمام مجلس الوزراء!
هذا أمر يجب أن يفهمه الإصلاحيون منذ اليوم.. أن دماءهم مباحة لكل بلطجي في الجنوب أو صعدة أو حجة.. وليس مسموحا لهم أن يحلموا بموقف قوي، وبيانات طنانة، وافتتاحيات صحفية محمومة ممن يظنون أنهم حلفاؤهم في الميدان!
المشكلة التي يواجهها الإصلاحيون في عدن تتلخص في عبارة قالها الزميل خالد عبدالهادي في «الثوري» الخميس الماضي، وتصلح تماما لوصف حالتهم.. فهم: مواطنون، صالحون، متجردون أمام القانون دونما ميليشيات مسلحة أو قبائل ضارية.. ونضيف من عندنا: ولا يؤمنون بالانفصال، ولا بأكذوبة الهوية الخاصة، والتاريخ الخاص للجنوب!