تتطور تكنولوجيا المعلومات في بلدان العالم، وفي اليمن تتطور تكنولوجيا الموت. أخيراً, أصبح لدينا شيء نفاخر بتطوره. في السابق، كانت الأمهات تدعو على أولادهن العُصاة ب"ان الله يجعلهم رجمة غدر"، ومع تقدم السنوات، تطّوّرت الدعوة الى:"جعلّك رصاصة متسيح" أي طائشة، حتى وصل بنا التقدم الى"جعلّك طائرة طائشة".
منذ سماعي نبأ سقوط طائرة"سوخوي" في صنعاء ظهر أمس، وأنا أضحك، ليس لأن ما حصل ويحصل في هذه البلد دائماً هو "شر بلية", ولكن على أمنيات الأطفال الذين كانت تلتقيهم بثينة القرشي وسؤالها الدائم لهم باللهجة الصنعانية: "أيش تشتي تقع يا بطل لما تكبر"، فيردون جميعاً بإجابة موحدة: "أشتي أوقع طيار".
تمنيت لو تلتقي بثينة أولئك الأطفال، بعد حادثة أمس المفجعة، وتوجه لهم سؤالا جديدا: "عادك تشتي تقع طيار يا بطل؟". أعتقد أن الأطفال سيجاوبون :"ما أشتيش أقع شيء".
في اليمن، لا يمكن أن "تقع" طيار، واذا وقعت الواقعة، ودرست طيران، فانك ستقع بطيارتك على رؤوس الناس في وسط العاصمة.
ما الذي يجري بالضبط في هذا البلد؟ صنعاء باتت "مثلث برمودا" جديداً. السكان أصبحوا مجرد رهائن، ينتظرون موتا نابعا من الأرض، او هاطل من السماء، وفي هذه العاصمة فقط الموت لا يَعدم طريقة.
بعد انفجارات معسكر الفرقة قبل أشهر، كان الناس يطالبون بنقل المعسكرات من العاصمة، وبعد سقوط الطائرة أمس، كان الجميع يندد بكيفية قيام طائرات حربية بالتدريب فوق مناطق سكانية. ومع ذلك لن يتغير شيء. الثورة مستمرة والموت مستمر. المعسكرات باقية، والطائرات ستتدّرب فوق الناس، رغم أنوف المعارضين للقضاء والقدر.
أصبح الموت شيئاً أليفاً لليمنيين. النكبات المتوالية لم تعد تثير الهلع ، حتى أنه عندما سألني أحدهم أمس عما حدث في صنعاء، أجبته دون اكتراث: "سقطت طائرة". سقوط طائرة في اليمن يوازي سقوط "ولاعة" من جيبك. حدث عابر ومتوقع.
يوما بعد آخر، يستسلم اليمنيون للموت بطريقة مدهشة. تهشيم طائرة لمنزل، وتفحم 10 جثث، حدث يظهر عند كثيرين وكأنه وقع في سيرلانكا, وليس في حي القادسية بصنعاء، حتى ان غالبهم لا يقرأ الرحمة على أرواح الضحايا، لمعرفتهم أنهم سيقرؤونها كثيراً، وان الطائرة الحربية، ان لم تسقط في مهمة تدريبية، كانت ستسقط بواحد من صواريخ سفينة"جيهان 1" او شقيقاتها القادمات.
الموت وفير هنا. وفي قاعدة الديلمي مازال هناك عشرات الطائرات التالفة، بوسعها دك الكثير من المنازل والجماجم في صنعاء. واذا كان في جعبة الصندوق الأسود بعض الأسرار الخطرة، ففي جعبة عزرائيل الكثير من المفاجآت لسكان العاصمة صنعاء، المحاصرين ب "قذائف صوفان والحصبة" ودبابات السبعين ونقم، وأخيرا طائرات عباس بن فرناس.