على جواز الحديث عن تمرد شمال الشمال في اليمن كأزمة تهم الدول المنضوية تحت مسمى جامعة الدول العربية فإن المشترك الحقيقي في الظاهرة الحوثية عربياً تجلى في إمعان الأنظمة وملحقاتها، من المكونات السياسية والثقافية والإعلامية، على اللعب بالورقة المذهبية من خلال استدعاء مكثف للتباينات السنية الشيعية. وفيما لم يفطن العرب مجتمعين إلى حسابات اللاعب الأكبر ممثلاً في إدارة البيت الأبيض التي جعلت من هذه الورقة في السوق العربية قيمة خاسرة، ولم يعد يرق لها اللعب بها في الشرق الأوسط فإن سريان خسارتها لم يبلغ الأنظمة العربية حتى اللحظة، جرياً على عادتها القديمة في "المواكبة" المتأخرة، أو الفهم البطئ بالتأكيد. وهو ما يفسر اقتناص القوى الرئيسية في شبه الجزيرة ومصر وحتى أجزاء من الشام والمغرب العربي لكل شاردة وواردة تربط بين تمرد الحوثيين وإيران، إذكاءً لمخاوف اشتغال الأخيرة على ترجيح كفة الوجود الشيعي في المحيط العربي، بما يعني أبعد من استهداف "السنة" كمسمى مذهبي إلى الأنظمة التي تستحضر الانتساب إليه في مقابل ولاية الفقيه الشيعية.
خطأ تضخيم البعبع الشيعي وتبعات المذهبية يحسب لتمرد الحوثي إذاً – الذي يرتبط الإتيان عليه ببقائه في دائرة "المحلية" سبباً ونتيجةً واستنباتاً واجتثاثاً وإحياءً وإماتةً – أنه كشف عن خيارات المتوجسين من إمكانية أن يسفر المخاض الذي تمر به المنطقة عن شروع واشنطن في وضع أولى لبنات مشروعها المتجدد "الشرق الأوسط الجديد". وفي مسار العلاقة بين العرب والولاياتالمتحدةالأمريكية، جرياً على ضرورة قياسها إلى عنصر ثالث لم تعد "تل أبيب" خلال القرب مداراً لدفء علاقة الأنظمة العربية مع واشنطن، بقدر ما يمثله ابتعادهم عن "طهران" حسب أدبيات الدبلوماسية العربية.
ومع أن الصواب قد يكون حليف الساسة العرب في إدراك المتغيرات الطفيفة على مجريات التحالف الأمريكي الإسرائيلي، ولو جزئياً، إلا أنهم في استكناه أبعاد الظاهر من التضاد الأمريكي الإيراني لم يزالوا في عمى، وبين "الشيطان الأكبر" وإحدى أركان "محور الشر" وغيرها من العناوين التي تصنف فيها كل من طهرانوواشنطن سياسة الأخرى وكينونتها الدولية عجز العرب عن إدراك أن الخيط الرفيع الذي يصل إيران بأمريكا أوثق من القيود الفولاذية التي تشدهم إلى واشنطن. ومن هنا فان الانطلاق من تمرد الحوثيين في اليمن – فضلاً عن حالة حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية – للحديث عن بعبع شيعي سيلتهم الأغلبية العربية السنية، الرسمية والشعبية، ظل مدخل الأنظمة العربية للإقدام على خطوات يظنون أنهم بقدر ما يبعدون بها طهران عنهم سيحظون بالقرب من واشنطن، من دون أن يعلموا أنهم يلعبون بالورقة الخاسرة، وفي الوقت الضايع.
وسواء كانوا إلى الإثنى عشرية الجعفرية أقرب، أو إلى الزيدية من خلال استدعاء تاريخية "الجارودية" أو كانوا غير ذلك.. فإن وصف المتمردين الحوثيين ب "الشيعة" لم يغير في الإستراتيجية الأمريكية لصالح النظام اليمني شيئاً، وكذلك الحال بالنسبة للنظام السعودي ومحور الاشتغال على تضخيم البعبع الشيعي من دول شبه الجزيرة والمنطقة العربية عموما. بل إن استحقاق الحوثيين لهذه الصفة المذهبية قد يخدمهم فيما لو تناغم وجودهم الاجتماعي والسياسي مع نسق شيعي تنظر له واشنطن بعين الرضا، وليس من اليمن ببعيد. وفي هذا السياق يمكن إدراج ليس إحجام الولاياتالمتحدةالأمريكية عن ضم حركة التمرد الحوثي إلى قائمة الإرهاب فحسب، وإنما تكرار ترديد مسئولين أمريكيين رفيعي المستوى لمقولة أن واشنطن لا تملك أي دليل مادي يؤكد دعم إيران للحوثيين، أو ليس لديها معلومات من مصادر مستقلة عن هذا الأمر.
وربما تبعاً لذلك قد يصح القول إن أمريكا لا يمكن لها أن تعتمد في أبسط خياراتها ذات الصلة أساساً بحلفائها العرب على تقاريرهم مهما كانت صادقة وواقعية ما لم يتسن لها التأكد منها عبر مصادرها الخاصة. ومع ثبوت هذا الفرض إلا أن الوجه الآخر لرفض واشنطن اتهام طهران بدعم الحوثيين واستبعاد ضمهم إلى قائمة الإرهاب يفصح عن محورية تمرد الحوثي - بعد تكوّنه بالتأكيد - في مشروع الشرق الأوسط الجديد ضمن مرئيات جدل العلاقة في المحيط العربي بين السنة والشيعة، وفاعلية التعاطي الحذر والمدروس مع الثقل الإيراني للعب دور استحداث موازين قوى جديدة خليجياً وعربياً.
مسارات السيناريو الأمريكي وتحذيرات "فيلتمان" هناك معطيان في المعادلة التي تشتغل عليها واشنطن هما عالمية تنظيم القاعدة مع الإصرار على صفة "السني"، والثقل الإيراني "الشيعي" بتأكيد الصفة أيضاً. وفي قياس حركة تمرد الحوثي إليهما ربما تستبين الخطوط الرئيسية للسيناريو المحتمل.
وعن المعطى الأول فإن إرهاب تنظيم القاعدة بوصفه عالمياً لا يكفي واشنطن لإصرارها على اعتباره التهديد الحقيقي لليمن والمنطقة، سواء في المحيط الذي ينشط فيه المتمردون الحوثيون أو أبعد، ذلك أن هذا المسلك وإن انطلقت فيه أمريكا من توقع إلحاق القاعدة الضرر بمصالحها هنا، وهو ما تستبعده بل ولا تتوقع حدوثه بالمطلق من قبل حركة الحوثي، إلا أن ثمة أكثر من دليل يشير إلى أن إستراتيجية البيت الأبيض تقضي بقصر قراءة حركة الحوثي على دائرة التمرد البسيط، بما يبقي نيّة التفات النظام العالمي – الذي تتصدره أمريكا – إلى الحوثيين وإضفاء المشروعية على تمردهم قائمة، بخلاف ما لو تم ضمهم إلى قائمة الإرهاب.
أما في المعطى الثاني فإن واشنطن تحرص على الفصل بين الحوثيين كجماعة شيعية ليست مقطوعة الصلة تاريخياً باليمن وإن كان غريباً عليه مظهرها الجديد، وبين إيران "الإسلامية" كنظام حديث عهد بالوجود، وفي هذا الفصل ما فيه إذ يمكن لواشنطن في العنوان العريض لحماية حقوق الأقليات بلورة دلائل على تعرض جماعة الحوثي – بصفتهم المذهبية – لمظالم يمكنها استخدامها أوراقاً للضغط على النظامين اليمني والسعودي وقت الحاجة. كما يخولها هذا الفصل الظهور متوازنة من خلال التمييز بين التشيع اعتناقاً لطريقة في التمذهب وبينه مجاراةً لسياسة إيران، وهذه النظرة من قبل واشنطن إلى البعد المذهبي الشيعي الحاكم على نظام طهران كما لو كان ذاته ليس محل الاستشكال يبدو أنها تتعمدها للإيحاء بأن ما تأخذه إحدى الدولتين على الأخرى لا يمس الجذور في شيء. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فأمريكا هنا تضع التداخل الإيراني الحوثي في دائرة التعاطف المذهبي غير الرسمي، وتبعات ما ينتج عن هذا التداخل لا تعني النظام الإيراني وفق الرؤية الأمريكية.
ولم يعد يرق لواشنطن اشتغال حلفائها العرب على الورقة السنية الشيعية بالتأكيد، وربما بدر منها غير مرة لفت أنظارهم علناً إلى خطورة هذا المنزلق، ففي حوار المنامة، وعلى هامشه، منذ أكثر من ثلاثة أسابيع نوّه مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية جيفري فيلتمان – الذي نفى في المناسبة ذاتها أن تكون لدى الإدارة الأمريكية معلومات مستقلة تفيد بتلقي الحوثيين لدعم إيراني – إلى خطورة تكريس الانقسامات بين السنة والشيعة، مشيراً إلى إمكانية أن يبدي الفريقان فيما بينهما تعاوناً جيداً وانسجاماً مقبولاً، وضرب مثالاً لما رأى أنها ظاهرة ايجابية بالوضع في العراق ولبنان.
غير أن ثمة فرق بين جديّة الإدارة الأمريكية في ثني العرب عن اللعب بهذه الورقة، ومجرد تنويه ربما تفهمه الأنظمة العربية بصورة عكسية هي ذاتها التي كانت تؤمل واشنطن حدوثها لتمرير أجندتها في ضوئها. ومهما يكن فإن مآلات الاشتغال الطائفي والمذهبي ستذهب بالأنظمة العربية عكس ما كانت ترجو، إذ أن الفيصل اليوم في علاقة أمريكا بالعرب وتحالفاتها معهم أنها لم تعد قائمة على ثوابت "إستراتيجية" وإنما متغيرات "تكتيكية".. بما يعني أن توافقها مع إيران في العنوان العريض لنتيجة التعاطي مع منظومة الدول العربية ينهض سبباً كافياً لتفضيل واشنطن "نديّة" طهران الشكلية على "تبعيّة" الرياض والقاهرة وعمّان والبقية الباقية.
هدايا واشنطنلطهران.. لم يعد مفهوماً عدم استشعار الساسة العرب لمدى الوفاق القائم بين إيران وأمريكا في الموقف الثابت والمبدئي من تنظيم القاعدة، وعلى جواز ذكرهم للتسهيلات التي قدمتها طهرانلواشنطن للقضاء على نظام طالبان بأفغانستان فإنهم يتغافلون عن حقيقة الخدمة الجليلة التي قدمتها أمريكا لإيران من خلال تحمّل الأولى عبء تخليصهما معاً من كيان يتشاركان في تهديده. وكذلك الأمر بالنسبة لنظام صدام حسين الذي لا يمكن إنكار أن تولي الولاياتالمتحدة على رأس حلفائها مهمة إسقاطه وبقدر ما نفسّت عن أصحاب الجلالة والسمو على ضفة الخليج من الناحية العربية فإنها انتقمت لآيات الله على الأخرى الفارسية.
وإذا صح أن ما تكشفت عنه الحرب على طالبان وراء التبدّل الجوهري في الموقف الأمريكي تجاه إيران، فإن إقدام واشنطن بعيداً عن الشرعية الدولية – ولو صورياً باعتبارها في الجوهر غير متحققَة أصلاً – على خيار الحرب التي انتهت بإسقاط نظام صدام حسين مثّل مرحلة متقدمة في مشوار إعادة النظر بخصوص الموقف من طهران.
وكما أسس إسقاط طالبان بين النظامين الأمريكي والإيراني أرضية صلبة لمد جسور الثقة في علاقة يريد لها الطرفان أن تظل بدوام متوالية الحرب على تنظيم القاعدة، بما يجعل من تهافت مزاعم ربط طهران بهذا التنظيم أمراً مؤكداً لدى واشنطن – بصرف النظر عن علاقة إيران مع حزب الله وحركة حماس المحكومة بسياقات أخرى مختلفة - فقد أسفرت الشراكة في عراق ما بعد الرئيس الراحل صدام حسين عن تكامل أمريكي إيراني طغت ألوانه المتباينة على المشهد العراقي الجديد في سابقة باتت على غرابتها مستساغة، كحالة رئيس الوزراء نوري المالكي في المنطقة الخضراء التي شهدت في زمنين منفصلين تبادل الحديث بودّ مع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، لما لم يزل رئيساً، ومحمود أحمدي نجاد خلال دورة رئاسته الأولى لإيران.
مبررات عجز الأنظمة العربية.. لم تفلح الأنظمة العربية، لاسيما دول الطوق، في تحقيق حضور يذكر بموازاة الدور الإيراني في العراق الذي يرزح تحت وطأة القوات متعددة الجنسية بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية.
ورغم تعدد مسببات هذا العجز العربي عن لعب الدور الموازي لإيران قبالة أمريكا إلا أن النخب الحاكمة في العواصم العربية ذات الصلة المباشرة جغرافياً بالعراق كالرياض وغير المباشرة كالقاهرة ارتأت تحميل التعداد الكبير للشيعة بين الإجمالي العام لسكان العراق تبعات تعاظم الدور الإيراني هنالك، على اعتبار أن ولاء الشيعة في العراق متجه أساساً صوب الولي الفقيه في طهران، بما يجعل من حضور سلطات المرشد علي الخامنئي في النجف وكربلاء على سبيل المثال تحصيل حاصل.
وبعيداً عن مدى صوابية هذه الرؤية من خطئها ومناقشة تبعاتها فإن الطرق بإمعان على وتر الصراع السني الشيعي، على أساس أن إيران تمثل الأخير فيما يصدر العرب عن الأول، وبقدر ما أراد قطع الغالبية الشيعية في العراق عن جذورها العربية وإلصاقها بالفرس، فقد أذكى لدى أقليات شيعية في بلدان عربية أخرى الشعور بالاغتراب داخل محيطها السني العربي، ومن ثم الحنين إلى الالتحام - كردة فعل من يعدم الخيار البديل – بالوجود الأم الذي صنعت فاعلية الدولة الإيرانية من كيانها مركزاً له، بما يعني في المحصلة النهائية أن السحر قد انقلب على الساحر، إذ أن المتلاعب بنار الورقة المذهبية في النموذج العربي كان أول من اكتوى بلهيبها، فيما لم تخسر إيران التي تحكم السيطرة على جبهتها الداخلية، سواء كانت السباقة إلى هذه اللعبة أم اللاحقة، أي شيء.
ومع ملاحظة أن الشيعة في أفغانستان والعراق بعد تجاربهم المريرة مع السلطات الوطنية في خلافة الملا عمر ونظام الرئيس صدام حسين قد أبدوا مرونة كبيرة في التعاطي مع الوجود الأمريكي، الممثل في القوات العسكرية أو السلطات المحلية التي أنتجها، فإن عين الرضا الأمريكية تجاه شيعة البلدين ربطت لدى واشنطن إمكانية استنساخها في المحيط العربي لتجربتي حامد كرزاي ونوري المالكي بمدى قدرتها على تكريس براءة البيت الأبيض من مظلمة الأقليات الشيعية، وتحميل الأنظمة العربية وحدها هذا النوع من الوزر، وهو ما لم يفطن إليه الساسة العرب، إذ ليس أدل على ذلك من إصرار بعضهم على انصراف ولاء أقليات شيعية اثني عشرية في الخليج العربي مثلاً صوب طهران أو قم، من دون أن تضع هذه النخب الحاكمة في حسبانها أنها قد تفيق يوماً على وقع أقدام جنود المارينز ومشاة البحرية الأمريكية، الذي يؤذن وجودهم بمخاض جديد لن يحول أحدٌ فيه بين الشيعة والاحتفال بعاشوراء ويوم الغدير في المساجد والحسينيات، بالإضافة للحج إلى البقيع والكوفة والنجف وكربلاء وقم وسامرّاء أيضاً.
ومن كل ذلك فإن اضطراب المنظومة العربية بين تقبل الأقليات الشيعية على مضض، بمصاحبة النظر إليها كبؤر للتوتر، أو التنكر لها من خلال سلخها عن عروبتها في اشتغال نظري إعلامي وثقافي ممنهج ومدروس، هدفه الدفع بها صوب الارتهان لإيران ابتداء بإخلاصها الولاء ثم تصديقه بالقول والفعل.. لهو بمثابة الفرز بين الممكن وغير الممكن في سياق تحديد مراكز الثقل من دول الشرق الأوسط الجديد، في إستراتيجية الإدارة الأمريكية، التي قد تتخذ من تجربة العراق في حال نجاحها منطلقا لإرساء دعائم أخرى يُراد للحوثيين تمثّل مرتكزها القائم على مظلمة أقلية شيعية تنشد الإنصاف لدى المجتمع الدولي، مع أنها عن استحقاقه أبعد.
وما لم يُصار في اليمن بصدد المتمردين الحوثيين إلى حلٍ داخلي يستبعد الأجندة الخارجية بالمطلق فان الإتيان عما قريب على هذه الأزمة وطي صفحتها بات حلماً صعب المنال. أما في الوجود العربي الشامل من المحيط إلى الخليج فإن الأنظمة والنخب الحاكمة مسئولة عن تحقيق مصالحة حقيقية واقعية وعادلة بينها وبين مكونات النسيج الاجتماعي دون استثناء، وكذلك بين هذه المكونات وبعضها البعض، على أسس تستحضر الهويات القطرية لكل بلد والقومية العربية في المجمل، باعتبار أن هذا المسلك هو السبيل الوحيد لتدارك تبعات اللعب بالأوراق الطائفية والعرقية والمذهبية والقبلية على حدٍ سواء.