لعقود طويلة جداً، وجد اليمنيون أنفسهم أمام خيارات محدودة وقاسية، أما اليوم فلديهم العديد من الخيارات وفرصة سانحة لحسم مصير مستقبلهم. أتحدث عن مؤتمر الحوار الوطني، عن الأيام الصعبة التي يجب على اليمنيين خوضها بعد أيام، وياله من تحدٍ عسير لأبناء البلد، إذ يتحتم عليهم أن يكتشفوا أثناء هذا الحوار وبعده ما إذا كانوا قد نجحوا أخيراً، أم أنهم سيواصلون الإخفاقات حتى يوم القيامة.
أتحدث عن الأيام الصعبة وكأن ثمة أياماً سعيدة في حياة الناس الكادحين لسنوات، غير أن الأيام المقبلة تستحق اسمها فعلاً، ذلك أنه لا أحد سينجو إن فشل هذا المؤتمر، إذ قد يتحول إلى لغم كبير لن تتوقف من بعده الانفجارات، ولا صوت الرصاص والخراب.
أكتب اليوم عن مؤتمر الحوار شيئاً شبيها بما كنت أقوله أثناء الحديث عن ضرورة التوقيع على المبادرة الخليجية، كنت أعتقد أن انعدام فرص الخروج من توازن القوة بين النظام الذي ثار الناس ضده وبين الثورة التي توقفت عند نقطة ما، لن يفضي سوى إلى مزيد من الدماء والإرهاق دون فائدة، كان السأم من تلك الأوضاع متربص بالجميع وكاد أن يفجر أوضاعاً أخرى ملتهبة، مليئة بالآلام والمآسي.
اليوم لدينا وضع مختلف، لقد تجاوزنا تلك الأيام التي كنا فيها على الحافة، وقطعنا شوطاً جيداً في الابتعاد عن الانجراف نحو الاقتتال والعنف، لكن الخراب لا يزال من حولنا، ولدينا أوضاع هشة، واقتصاد عليل، ومزيد من الرجال الذين لا يتوقفون عن حشو البنادق وبناء المتارس.
وسط ذلك، يأتي مؤتمر الحوار كنقطة تحول تاريخية، والجملة الأخيرة كتبتها على مضض، لأنها تذكرني بخطب الساسة الذين قادونا إلى هذه الأوضاع الصعبة، لكني أصر على أن أي تحول تاريخي عظيم وكبير إن كان يمكن حدوثه في هذا البلد فهو لن يأتي من خارج مؤتمر الحوار الوطني.
لقد تعلقت بالثورة الشبابية وآمنت بها، ولا أريد أن أفقد إيماني بها أو أشعر بالخذلان، وحين أتلفت حولي لا أجد شيئاً يمكن له أن ينقذ أحلام الثورة الكبيرة والشاهقة سوى ما ستحمله الأيام المقبلة، هذا رهاني الآن، ولا أستطيع أن أراهن على شيء آخر، ولذلك أشعر أن عندي الرغبة الكافية والاقتناع اللازم للدفاع عن هذا الحوار والنضال من أجله، حتى يكون جاداً وحقيقياً وليس مجرد تجمع لناس غاضبين لا يضمرون لبعضهم سوى الكره والبغضاء.
هم قد يكونون كذلك فعلاً، هذا لا يهم، الحوار أصلاً لمن يختلفون، والحوار الذي يجمع عصابات الشر بالرجال الجيدين يتوقع أن لا يكون سهلاً أبداً، لكنه ممكن، أقصد ممكن من حيث أنه قد يستطيع تفكيك وحل القضايا المعقدة ووضع قواعد جديدة وعصرية لقضايا الدولة وبالتالي كتابة النجاح لهذا المؤتمر.
أكتب عن الفرص والنجاحات، وتقفز إلى ذهني صور "الجن" الذين تسببوا في خراب نص البلد، أتخيل صراخهم في جلسات الحوار وأشعر بالمغص، وأتذكر أن الرئيس وعد بتمهيد الأجواء للحوار ولا أجد ما يكفي، وأقرأ الأخبار والمقالات التي يكتبها الفرقاء والأحزاب ضد بعضهم فأشعر بالأسى والقلق.
أتذكر كل ذلك، وأقول لنفسي: "هذه تحديات طبيعية.. لا تقلق سيتجاوزها إخوانك اليمنيون، لا يوجد ما تخشى عليه، والناس قد تعبت من "المداهفة والمداحسة".. الجميع يرغب في هذه الدولة التي لم تأتِ بعد".
أقول لنفسي ذلك، لأني بصراحة خائف ولا يوجد عندي من الجرأة ما يجعلني أتخلى عن الأحلام السهلة، وسط بيئة معقدة ومفخخة بالمفاجآت المؤلمة في مثل هذا البلد، لكني في الوقت الراهن لا آبه لذلك. لقد بقيت لفترة طويلة لا أستطيع أن أتخيل أي مستقبل مزدهر لهؤلاء الناس الطيبين من حولي في القرية والمدينة، لكنني اليوم وأنا أنظر إلى مؤتمر الحوار أستطيع أن أتخيل أشياء سعيدة، ليست كثيرة لكنها تكفي كبداية.