وصف أحد المفكرين الهنود تقسيم الهند قبل خروج الاستعمار البريطاني بطلقة الرصاص الأخيرة التي أفرغها البريطانيون في الهند، وهاهي الفيدرالية طلقة الرصاص الأخيرة التي تفرغها النخبة السياسية اليمنية في صدر الدولة اليمنية المعلولة، والتي لا يعالجها إطلاق مشروع الفيدرالية، بل في طرح أولويات أخرى تحتاجها الدولة المريضة. الفيدرالية في دولة حكومتها المركزية بهذا القدر من الضعف إجابة خاطئة للتساؤل المطروح، فالدولة التي تعاني من ضعف في حكومتها المركزية عاجزة كلياً عن تحمل مشروع الفيدرالية الذي يزيدها ضعفاً وهواناً. فكيف للحكومة المركزية الضعيفة جداً والعاجزة عن أداء مهامها، عوضاً عن تقوية أدائها، نطالبها بالتخلي عن مسؤولياتها ومهامها كلياً من خلال توزيع سلطاتها على الأقاليم المختلفة، فهذه الأقاليم بطبيعة الحال سوف تتطور لتصبح أقوى من الدولة المركزية بمنتهى البساطة، وهذا ما يحدث الآن في العراق. الإقليم يفترض أن يخضع لدولة مركزية لديها سياسات عامة تفرضها على الجميع، فكيف لهذه الدولة التي تعجز عن فرض قوات أمنها على مستوى شوارع العاصمة أن تتحدث عن فيدرالية بأقاليم ذات صلاحيات واسعة.
أولويات الدولة في اليمن لا تتعلق بالفيدرالية على الإطلاق بل تتعلق بالإصلاح الإداري الواسع لأجهزة الدولة مثل جهاز الخدمة المدنية الذي يحتاج لإعادة تأهيل حتى يقوم بدوره الطبيعي في تعيين موظفي الدولة عبره حسب الكفاءة ويتجاوز منطق المحاصصات الحزبية، وبالتأكيد تحتاج لإعادة حضورها وهيبتها من خلال إصلاح قضائها وكذلك وزارة داخليتها الضعيفة من جهة والتي استمرأت انتهاك حقوق الإنسان من جهة أخرى، وصار واجبها حماية الحكومة من المواطن وليس حماية المواطن. هذا غير الملف الاقتصادي المثقل بقضايا الفساد والعبث الإداري، والأهم من هذا غياب الرؤية لدور إنتاجي للاقتصاد اليمني. ليس هذا فقط بل إنها فكرة مخالفة لأولويات المرحلة الانتقالية كما ينبغي لها أن تكون، فهذه المرحلة مقبلة على استحقاق انتخابي مهم بعد أقل من عام، ومع ذلك لم يتم الحديث مطلقاً حول التجهيز لهذا الاستحقاق مثل هيكلة اللجنة العليا للانتخابات. فقرار كالفيدرالية بالتأكيد ليس قرار نخبة سياسية تدير مرحلة انتقالية كما يفترض.
هو قرار محسوم خارجياً سلفاً ينتظر التزكية الظاهرية جداً من مؤتمر الحوار الوطني، فمنذ بداية المرحلة الانتقالية والخبراء الغربيون وفرق عمل الدول الراعية أو المانحة تحديداً بريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية، لم يتوقفوا عن الحديثعن الفيدرالية كحل سحري لمشاكل اليمن التي لم يعد تنقصها الحلول السحرية. بل إنه في اجتماع تم بعد توقيع المبادرة مباشرة حضره يمنيون مع وزير بريطانيا للتعاون الدولي وأحد أهم المسؤولين عن الملف اليمني تساءل الوزير حول أيهم أفضل فيدرالية تقسم اليمن لسبعة أقاليم أو تسعة، باعتبار قرار الفيدرالية صار أمراً مفروغاً منه، كيف لا؟ ونخبتنا لا تعتريها هذه الطلاقة في اللسان إلا بوجود توجيهات خارجية وليس باستشعارها لأولويات واحتياجات اليمنيين حيث تعاني من ضعف شديد في حساسيتها تجاه نبض الشارع. فهي نخبة لم تستلهم حركة الشارع الجنوبي في عدن بداية انطلاقة الثورة قبل انضمام مراكز القوى للثورة في صنعاء ومن ثم سيطرتهم على ساحتها. فلو استلهمت تلك اللحظة لأدركت إن مشكلة الوحدة اليمنية لا تأتي بحلول سحرية وقفزات مجهولة في الهواء لا أساس لها في الأرض بل بتحركات جدية على الأرض لإعادة الثقة وتحقيق العدالة.
لو تبنى الفيدرالية على أساس الوحدة بالفعل لكان الحديث على الأقل عن خطة زمنية تدريجية تبدأ على الأقل بتفعيل عمل مجالس الحكم المحلي الموجودة فعلاً ومن ثم توسعة صلاحياتها. ويستغرب المراقب لتحركات القوى السياسية في اليمن من صمتها أمام شلل الحكومة اليمنية وعجزها عن تطبيق النقاط العشرين التي كان بإمكانها تنفيس كثير من الاحتقان في المحافظات الجنوبية، مما كان يعطي مؤشرات ثقة بالنخبة الحاكمة بصنعاء تساعد على فتح النقاش حول مستقبل الدولة اليمنية بشكل أكثر جدية بعيداً عن المزايدات بسبب الوحدة أو الابتزاز باسم المظلومية. وهنا يفرض السؤال نفسه كيف للحكومة العاجزة عن تنفيذ النقاط العشرين للتهيئة تصبح قادرة على تنفيد الفيدرالية بل وباشرت عملياً بها عندما اتجهت لتقسيم اليمن عسكرياً لسبع مناطق فيما يبدو عملية توزيع للجيش وتقسيم لأجزاء الدولة الضعيفة، في وقت تقف عاجزة عن تنفيذ النقاط العشرين الأقرب للواقع والأسهل للتطبيق من فيدرالية هي بالمناسبة مكلفة جداً على ميزانية دولة فقيرة تتوزع ميزانيتها الضعيفة على كل هذه الأقاليم.
النقاط العشرون التي تطرح معالجات حقوقية وسياسية معقولة وممكنة جداً وتتجه للمشكلة من حيث منابعها وهي غياب العدالة وبالتالي غياب الدولة حتى تفاقمت المظالم وضعف الانتماء، لكن آثرت النخبة الحاكمة القفز على هذه النقاط نحو مشروع شديد الضخامة تريد إنجازه دفعة واحدة دون تدريج لأنه ببساطة مشروع يستجيب لمطالب الدول الراعية. ولتبرير الرغبة الجامحة في هذه الفكرة المتهافتة، تطرح الفيدرالية من منطلق إنها صيغة تحافظ على الوحدة. وهذا ليس إلا كلاماً لذر الرماد في العيون مما يظهر جلياً من خلال طبيعة الطرح المفاجئ دون القيام بالخطوات التمهيدية الواجبة لجعل الفيدرالية كذلك وأبسطها إصلاح مركز الدولة، فانتقال دولة من كيان بسيط لكيان مركب عملية لا تخلو من المخاطر لو لم تتم دراستها جيداً، وهذا مالم تفعله نخبتنا المبشرة بنبينا الجديد الفيدرالية.