في ظلّ الحوار الوطني، الذي يمضي حالياً بثبات في اليمن، ومع التوجيهات الرئاسية الأخيرة بتعيين القادة العسكريين الجُدد، تبدو هذه اللحظة ملائمة لتقييم مدى التقدم الذي بلغته اليمن في عملية الانتقال السياسي، وما الذي تبقى لها من خطوات للمضي قُدما.
يهدف الحوار الوطني – الذي يشكّل المرحلة الثانية من المبادرة المدعومة دولياً، والتي أدّت إلى الإطاحة بالرئيس السابق علي عبدالله صالح - إلى معالجة المظالم في الجنوب وفي صعدة؛ عبر إرساء أسس ودعائم الدستور الجديد، وضع إستراتيجية لبناء الدولة، ومعالجة قضايا العدالة الانتقالية، وحقوق الإنسان، وإعادة هيكلة الجيش، بالإضافة إلى معالجة النزاعات المتعدّدة التي تهدّد الفترة الانتقالية في اليمن. كما يشمل جدول الأعمال مهمّة شاقة وضخمة – حتى في أكثر المناطق استقراراً وأمناً، التي بالتأكيد تفتقدها اليمن – وهي المهمّة التي يتوجّب أن تُستكمل في ظرف ستة أشهر فقط، وفقاً للخطةّ الانتقالية.
وعلى الرغم من التحدّيات والتأجيلات العديدة التي شهدها الحوار، تُنبئ المرحلة الأوليّة من الحوار الوطني في اليمن بشيء من الأمل، حيث تمّ تحطيم حواجز اجتماعية هائلة خلال الجلسة الافتتاحية العامة، وحيث تخطّى الشهران الأوليان من الحوار التوقّعات. وتضمّ جلسات الحوار الوطني خمسمائة وستّة وخمسين مندوباً من مختلف الفصائل السياسية والجغرافية إلى جانب مندوبين مستقلين يمثّلون الشباب والنساء والمجتمع المدني والقطاع الخاص. وعلى الرغم من الأولويّات والهوّيات والمصالح المتضاربة، شارك المندوبون في نقاش محتدم، واستمعوا إلى العروض التي قدّمها الخبراء المحليّون والدوليّون، وبدأوا بالتفاوض على القضايا الجوهرية – وذلك في بيئة يسودها السلام والاحترام. وعلى الرغم من سير المظاهرات في عددٍ من المُدن عند انطلاق الحوار الوطني، وعلى الرغم من استمرار اندلاع أعمال العنف في بعض المناطق الجنوبية، مضت الإجراءات قُدماً من دون أن تسجّل سوى القليل من العنف أو التعطيل، يبدو هذا الواقع كأضعف الإيمان، ولكن ينبغي الاعتراف بهذا الإنجاز في بلد كان يعيش على حافة الحرب الأهلية وينتشر فيه السلاح.
أمّا الأمر المميّز والجدير ذكره في اليمن فهو أنّ المندوبين الذين يمثلون مجموعات من جميع أنحاء البلاد تمكّنوا من التعبير عن شكواهم على المنصة الوطنية للمرّة الأولى في تاريخ اليمن. وقد شاهد اليمنيّون أحد الممثلين القادم من جزر سقطرى، وهو يتحدّث بشغف عن مظالم السكان، ويذكّر المندوبين بأنّ عدداً كبيراً من سكّان سقطرى لا يزالون يعيشون في كهوف في القرن الحادي والعشرين. من جهة أخرى، رفع مؤيّدو الحراك الجنوبي العلم الجنوبي بفخر في حين كان المتحدّثون الوافدون من الجنوب يُطالبون بحقّ الجنوب بتقرير مصيره. أمّا النخبة السياسيّة وكبار قادة العشائر الذين وصلوا متأخرين، فقد تمّ رفض جلوسهم في المقاعد الأمامية من صالة المؤتمر وطُلب منهم الجلوس في الخلف. كما قام الممثلون عن مجموعات الأقليات وغيرهم من الفصائل بنسج تحالفات فيما بينهم من أجل الضغط باتجاه تحقيق بعض القضايا المحدّدة. وقد ظهرت هذه التحالفات –مثلًا- عندما سعت المجموعة الصغيرة التي تمثّل "إقليم تهامة" إلى حشد تأييد فصائل أخرى من أجل القيام بمظاهرة بشأن النزاعات التي تشهدها منطقتهم. كما قام النساء والمندوبون المستقلّون بجمع الأصوات اللازمة للفوز بمناصب قيادية في فرق العمل الخاصة بهم، وبالتالي تقود النساء حالياً أربع مجموعات من أصل تسع مجموعات. إلى جانب ذلك، جلس المندوبون، الذين يمثلون الفصائل التي كانت أو لا تزال متنازعة، على الطاولة عينها، حيث ناقشوا القضايا على شكل بناء خُطط العمل للأشهر القادمة.
وأشار عددٌ من منتقدي الحوار إلى هيمنة أهل النخبة السياسية على المندوبين المختارين، ولكنّ الإجراءات الأوّلية قد تبشّر بالنمط المرجوّ: وهو قدرة المندوبين غير التقليديّين على موازنة مراكز القوى التقليدية. وأصبح الأشخاص الوافدون حديثاً إلى الساحة السياسية – بمن فيهم الشباب والنساء المستقلون والمجتمع المدني- يملكون حالياً منبراً، حيث لا يتردّدون في التعبير عن استيائهم حيال الإجراءات التي يعتبرون أنّها قد تؤدّي إلى نتائج تُعاكس المصالحة الوطنية. بالإضافة إلى ذلك، لا يتردد المندوبون باللجوء إلى الإعلام من أجل تفسير بعض الأحداث من وجهة نظرهم، وبالتالي في حال حدوث خرق فاضح هناك الآليات تم وضع لضمان الإعلان عن هذه الانتهاكات.
وفي حين لا تزال طريق الحوار طويلة، برهن المندوبون أنّهم يأخذون هذه المسؤولية على محمل الجدّ، وأنّهم قادرون على قيادة وطنهم قُدماً. كما أظهر ممثلّو الشباب والنساء المستقلون وممثلو المجتمع المدني، إلى جانب المندوبين الآخرين الذين تحدّثوا بالنيابة عن الهيئات التي يمثّلونها، تصميمهم الجليّ على الكفاح من أجل نجاح الحوار الوطني. وإنّ هذا التصميم وهذه القدرة على تعطيل المحاولات الرامية إلى تقويض العمليّة بدوافع سياسية محدودة هما العنصران اللذان يرسخان الثقة والإيمان بالحوار بصفته الأداة الأولى للمصالحة.
ولكن على الرغم من هذا التفاؤل، لا تزال شريحة كبرى من السكان تشكّك في عملية الحوار، ولا تزال مجموعة أخرى من الشعب ترفض هذه العملية رفضاً قاطعاً. فقد قاطع البعض الحوار باعتباره مسرحية سياسية، في حين قال البعض الآخر إنّ الحوار سيفشل في معالجة القضايا الرئيسة. ولكنّ الفصيل الأكثر أهمية يتمثّل في مجوعات الحراك الجنوبي، الذي يُطالب بتأسيس دولة جنوبية مستقلّة، والذي لا يرى في الحوار السبيل لتحقيق أهدافه. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ اللجنة التحضيرية للحوار الوطني بذلت جهوداً عُظمى لإشراك الممثلين الجنوبيين، ولكن بحسب المحلّلة اليمنية، فاطمة أبو الأسرار: "]لم تتمّكن اللجنة من[ التقاط جوهر الشارع في المجموعة المُختارة. وينبغي القلق بشأن الانقسام الثنائي ما بين الحراك في الشارع الداعي إلى الانفصال والحوار الذي ينظر في خيار الدولة الفيدرالية". ويهدّد هذا الاستياء المتنامي بعرقلة العملية برمّتها والأسوأ من ذلك هو أنّ هذا الاستياء قد يؤدّي إلى اندلاع وتفشّي العنف في حين تستمرّ الحكومة المركزية بتطبيق أساليبها الصارمة لقمع المنشقّين في الجنوب.
إلى جانب النزعة الانفصالية وغياب الدّعم الشعبي الحقيقي في صفوف الجنوبيّين، تبرز معضلة أخرى في إطار الحوار الوطني، فالمرحلة الانتقالية تعتمد على نجاح الحوار الوطني، ولكنّ الإطار يتطلّب إحراز تقدّم على مستوى عمليتيْن متوازيتين هما الحوار الهادف إلى وضع حجر الأساس لبناء الدولة الجديدة وعملية إعادة هيكلة الدولة التي تقودها دولة ضعيفة وغير فعّالة. وسعياً إلى نجاح الحوار، على الدولة أن تبني الأسس اللازمة، وأن تقدّم الدعم السياسي للقرارات المنبثقة عن الحوار، والتي ينبغي أن تتبنّاها المؤسسات الرسمية، وأن يقبلها الشعب. ومن أجل ضمان نجاح عملية إعادة هيكلة الدولة، على الحوار أن يحدّد مسار إعادة هيكلة الدولة وأن يعيد التفاوض على العلاقة بين الدولة والمواطن. وبالتالي يواجه اليمن حلقة مفرغة، حيث يتطلّب الحوار دعم الدولة الضعيفة حالياً لينجح، وحيث أصبحت قدرة الدولة شرطاً مسبقاً ومقياساً للنجاح في آنٍ واحد.
ومن المُمكن على الأقلّ التخفيف من حدّة هاتين القضيتين الهيكليتين في شكل جُزئي في حال تمّ اتخاذ الخطوات المناسبة في الوقت المناسب. فبالنسبة للوضع في الجنوب، تدعو الحاجة الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى التطبيق الفوري لأكبر عددٍ مُمكن من النقاط ال11، التي أوصى بها فريق العمل الجنوبي. فقد قام الرئيس هادي بتشكيل لجنتيْن لمعالجة قضايا مصادرة الأراضي ومعالجة قضايا الموظفين المُبعدين عن وظائفهم في المجال المدني والأمني والعسكري. وعلى الرغم من إحراز بعض التقدّم في هذا المجال، يُعتبر التطبيق العاجل إشارة مهمّة للدلالة على الالتزام الفعلي – وليس مجرّد كلام في الهواء- بالاستجابة إلى الشكاوى الشرعيّة لدى الجنوبيّين. أمّا السؤال المربك فهو: لماذا لم يتمّ إنجاز سوى القليل في هذا المجال خلال الأشهر ال14 منذ انتخاب هادي – حين كانت الآمال معلّقة على نجاح الحوار؟ ولماذا لا تزال قوى الأمن تفاقم وضعاً يتصف أصلاً بحساسيته؟
أمّا بالنسبة إلى إعادة تحديد العلاقة بين الدولة والمواطن، فينبغي التشديد أكثر على إشراك السكان في أهداف الحوار، وعلى كيفية مساهمة اليمنيين فيما من المفترض أن يكون مصالحة وطنية، وفي عملية إعادة البناء التي لا ينبغي أن تنحصر فقط على خمسمائة وخمسة وستين شخصاً. وسيقوم المندوبون من كلّ فريق عمل بزيارات ميدانية إلى مختلف المحافظات من أجل تعزيز التوعية والإصغاء إلى هموم المواطنين وإيصال أصواتهم، ولكّن نطاق هذه الزيارات وقدرة المندوبين على الوصول والتواصل مع المواطنين محدودة كثيراً. فلا شكّ في أنّ المشاكل الأمنية ستحدّ من قدرة المندوبين على السفر، ولكنّ من الممكن تطبيق عملية تقودها الجهات المحلية على مستوى القاعدة الشعبية من أجل جمع ونقل مساهمات اليمنيين الساكنين خارج العاصمة (صنعاء). كما ينبغي توسيع عملية إشراك المواطنين بشكل كبير كي لا تشمل الحوار وحسب، بل أيضاً عملية بناء الدولة. وما لم يتمّ ذلك خطوة تلوى الأخرى، ستواجه نتائج الحوار مقاومة شعبية عنيفة من جانب المجموعات التي تعتبر أنّ هذه النتائج لا تستجيب إلى حاجاتهم ومصالحهم، والذين يشككون بقدرة الدولة على تطبيق هذه القرارات. وبالتالي، ينبغي على الحكومة وقيادة الحوار أن يتعاونا ويركّزا على توسيع شبكة القادة المحليّين للوصول إلى المواطنين في المناطق الحضرية الأساسية الأخرى؛ مثل مدينتي تعز وعدن، إلى جانب القرى الريفية. قد تبدو هذه المقاربة طموحة، ولكنّها المقاربة اللازم اعتمادها كي يجتاز اليمن المرحلة الانتقالية.
ممّا لا شكّ فيه هو أنّه من المبكّر الحُكم على الحوار وعلى نجاحه. فكثيرة هي العراقيل والألغام التي قد تطيح بالنجاح الحديث العهد للعملية الانتقالية، حيث تشمل التحديّات الراهنة استمرار الأزمة الإنسانية وزيادة البطالة لدى الشباب والفقر المستشري الذي لا يزال يُلقي بظلاله على الوطن. ومن الصعب رفع هذه التحدّيات في المستقبل المنظور، وسيتمّ تقدير التقدّم المُحرز طوال سنوات وعقود وليس خلال الأشهر القليلة القادمة. ولكن على الرغم من هذه العراقيل القائمة، بإمكان قادة البلد الحاليّين أنّ يقوموا بخطوات عديدة من أجل اقتناص فرصة إنجاح الحوار والعملية الانتقالية. وفي هذا السياق، على الرئيس هادي والحكومة الانتقالية أن يرجّحوا حاجات الوطن على الميل إلى تحقيق المكاسب السياسية القصيرة الأمدّ، وأن يسعوا سريعاً إلى ترسيخ الثقة في العملية الانتقالية والدولة. وأيّ خطوة غير ذلك ستؤدّي إلى تفاقم الغموض والريبة اللذين لا يزالان يحدّدان مسار البلد.
--------------- دانيا غرينفيلد: نائبة مدير مركز "رفيق الحريري" للشرق الأوسط. حازم الإرياني: متدرّب في الأبحاث بمركز "الحريري"، حاليًا. - المقالة نُشرت على موقع المركز بتاريخ 22 مايو الجاري. - الترجمة إلى العربية مرسلة إلى المصدر أونلاين من الباحث الإرياني