ظاهرة انقسام الأحزاب انقساماً متوالياً مرتبطة بالأنظمة الشمولية التي تضطرها الظروف الدولية لصنع نوعية من الديمقراطية الفراغية (أي المفرغة من مضامينها الحقيقية)، وتضطر في بعض الأحيان إلى تقليد الدول العظمى والتدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب المعارضة لشقها من الداخل وتفتيتها إلى أحزاب أصغر، وفي حالة العجز عن إيجاد قيادات أو كوادر من داخل الحزب للقيام بالانشقاق؛ فإنها تقوم بتشجيع الإداريين أو الحراس على قيادة حركات التصحيح الداخلية التاريخية! بلادنا عرفت هذا النوع من الانقسام، كما عرفت نوعاً آخر من الانقسامات أصاب الأحزاب الجديدة التي يغلب عليها أنها من صنع المطابخ القديمة إياها أو تتبناها شخصيات طامحة لدور سياسي. وأظرف ما في هذه الانشقاقات أنها تتم والحزب ما يزال في المرحلة التحضيرية، وعملية الدعوة للانضمام إليه في بدايتها، والأدبيات الحزبية في مرحلة الإعداد الأولي، والحزب بشكل عام ما يزال تحت التأسيس، والاجتماعات تعقد في مقيل الزعيم، وأحياناً يستعيرون مقيل زعيم آخر سبقهم في تأسيس حزبه، ونجح في المحافظة على حزبه قائماً رغم خروج الأعضاء باستثناء الأقارب من الدرجة الأولى!
في الفترة الأخيرة من عمر النظام السابق حدثت عدة انشقاقات في أحزاب تحت التأسيس علقنا على واحدة منها بالمثل الشعبي الصنعاني: "مسرع تحمم.. ومسرع قالوا: نعيماً!". وكان الظن أن مرحلة الربيع العربي سوف تغلق هذا الباب المخجل نهائياً، لكن للأسف ما يزال الوسط السياسي يشهد ظهور أحزاب جديدة تستوحي الشعارات الفخمة كالليبرالية، والسلام الاجتماعي، والمواطنة المتساوية من روح ثورات الربيع العربي وبوصفها مرحلة جديدة من العمل الحزبي وتعبيراً عما حدث من تغييرات؛ إلا أن الطبع غلب على التطبع، واتضح أنها تحمل جينات الأمراض الانتهازية نفسها، فهي إما تدور في فلك رجل واحد تستيقظ عندما يستيقظ، وتخزّن عندما يخزن، وتنام عندما ينام.. وإما أنها تتعرض لمرض الانقسامات الثورية المبكرة.. فينقلب النائب الأول على الزعيم المؤسس، ويصدر قرارات ثورية بإقالته، وتشكيل قيادة جماعية للحزب تنقذه من الفردية والعشوائية.. وفي المقابل لا يستسلم الزعيم المقال، ويدعو إلى مؤتمر أو مقيل صحفي يندد فيه بالمؤامرة على الحزب الأمل، ويكشف أن نائبه تلاعب بكشوفات العضوية، وأدخل أسماء وهمية كثيرة ليضمن مكانة له في اللجنة التحضيرية، ويعلن الزعيم حركة تطهير جذرية. وكل ذلك يحدث والحزب ما يزال في مرحلة البحث عن مقر إيجار رخيص شاملاً الكهرباء والماء.. وحبذا لو وافق المؤجر على الانضمام إلى عضوية الحزب واللجنة التحضيرية العليا مقابل إعفاء الحزب من الإيجار!
••• مصر المحروسة لها أيضاً تجارب مع الأحزاب الكرتونية بما فيها التنظيمات الحاكمة التي تأسست منذ بداية ثورة 1952، وتأكد أنها مجرد مصالح حكومية تعمل وفقاً للدوام الحكومي وقانون الإجازات والعطل الرسمية.. وعندما وجد الرئيس السابق أنور السادات نهاية السبعينيات أن تنظيم مصر العربي الاشتراكي الحاكم (اسمياً) ورث كل سلبيات التنظيمات الرسمية السابقة أنشأ حزباً جديداً هو الحزب الوطني الديمقراطي (الذي تم حله بعد ثورة 25 يناير)، ويومها فاجأ أعضاء الحزب القديم رئيسه بالاستقالة الجماعية والانضمام فوراً للحزب الجديد.. ولم يبقَ في حزب مصر إلا عدد بسيط ظلوا على وفائهم للحزب.. وربما حتى الآن!
وفي عهد مبارك نشطت عملية السماح بتأسيس أحزاب كثيرة كنوع من الانفتاح الديمقراطي حتى وصل عددها إلى قرابة 25 حزباً كانت تحصل على دعم الدولة المادي.. ومع ذلك فكلها كانت عاجزة عن تنظيم مظاهرة أو إيصال أعضاء لها إلى البرلمان ولو بالحد الأدنى الذي تسمح به سياسة التزوير الشامل. وفي مرتين اثنتين فقط (1984 و1987) نجح حزب الوفد ثم حزبا العمل والأحرار على التوالي في إيصال أعداد كبيرة نسبياً من النواب إلى البرلمان لأول مرة في تاريخه بسبب تحالفها مع جماعة الإخوان المسلمين الممنوعة من العمل العلني.
وظل حال الأحزاب المصرية المعترف بها قانوناً في الحضيض شعبيا؛ رغم الاعتراف الرسمي بها والدعم الحكومي المقدم إليها، وامتلاكها مقراتٍ وصحفاً.. إلخ، وفي المقابل ظل الإسلاميون محرومين من حق تشكيل أحزاب أو إصدار صحف لكنهم كانوا هم القوة الشعبية الأولى والوحيدة القادرة على تشكيل تهديد حقيقي لنظام مبارك، وهو ما تأكد في انتخابات 2005 عندما سمح النظام للقضاء بالإشراف على الانتخابات النيابية لظروف دولية، ورغم التزوير والبلطجة حصل الإخوان على 20% من النتائج مما جعل النظام يلغي إشراف القضاء ويعود إلى إشراف البلطجية في انتخابات 2010 التي حصل فيها على أغلبية 95% لكنها كانت نهايته إذ مهد التزوير واليأس من إصلاح النظام لتفجير ثورة يناير والإطاحة بمبارك، وفتح المجال أمام تأسيس الأحزاب بدون قيد أو شرط!
ولأن مصر بلد المضحكات كما قال المتنبي؛ فقد ظهرت الأحزاب المصرية بعد الثورة على حالتين: حالة ضعف وحالة قوة شعبية.. والغريب أن الأحزاب الإسلامية التي كانت ممنوعة من العمل العلني ومحاربة أمنياً، وأعضاؤها يعيشون ما بين السجون والمطاردات هي التي ظهرت قوية تنظيمياً ذات نفوذ شعبي كبير سمح لها بالفوز بأغلبية في ثلاث استحقاقات انتخابية واستفتاءين.. بينما الأحزاب المعترف بها قانوناً والعاملة في ظروف أفضل ظهرت في حالة مزرية شعبياً، ولم تستحِ أن تبرر فشلها وعجزها بأن النظام السابق كان يمنعها من العمل خارج مقراتها (أي أنها كانت تلتزم بقاعدة طاعة ولي الأمر!) وترفض تحديه كما كان يفعل الإخوان وبعض المستقلين!
هذا العرض السريع يفسر لماذا كانت الأحزاب المصرية غير الإسلامية ترفض الاحتكام للشعب، وتدعو إلى التوافق بغرض ضمان حصص لها في السلطة بدون سند شعبي.. وعندما أعيتها الانتخابات لجأت للتحالف مع العسكر والأجهزة الأمنية ورجال أعمال مبارك، ودول خليجية لتأليف أكذوبة الشرعية الشعبية وثورة 30 يونيو التي استمرت ست ساعات فقط، ولم يسقط فيها شهيد واحد، وكان البلطجية ورجال أمن مبارك عمودها الفقري.. وقادها وزير الدفاع في أول سابقة ثورية من نوعها في تاريخ البشرية! وعلى رأي المثل اللبناني: هيك أحزاب.. تستحق هيك ثورة!