لا شك أن ما حدث ويحدث شعبياً في مواجهة الانقلاب العسكري في مصر هو أسطورة صمود رائعة في بلد مثل مصر تمثل "الدولة" تاريخياً في وجدانه النفسي وتاريخه اليومي دور "أمنا الغولة"، كما يقال في الحكايات الشعبية، فالدولة المصرية ترسخت هيمنتها وسطوتها خلال آلاف السنين في حياة الفرد من خلال ركائزها في كل مكان، وربما كانت مصر من الدول القليلة التي يسهل التحكم بها من المركز الحاكم، والهيمنة على كل شيء فيها. وباستثناء ثورة المصريين مرتين ضد جيش نابليون الغازي نهاية القرن الثامن عشر، وثورتهم عام 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي؛ فلم تعرف مصر مثل الحالة الثورية المستمرة ضد حكم العسكر الانقلابي.. بل يتميز ما يحدث الآن بأنه إضافة إلى سلمية المواجهات رغم القمع المتواصل؛ يواجه سلطة محلية وليس حكماً استعمارياً أجنبياً.. والفرق في ذلك يتمثل في أن مواجهة المستعمر الأجنبي أسهل وأقدر على إثارة حماسة الناس من مواجهة الطغيان المحلي الذي يسهل عليه تزييف وعي الناس، ويستند إلى ركائز محلية وخطاب سياسي وإعلامي يسهل به ادعاء الشرعية ورفع الشعارات الوطنية لخداع البسطاء من العامة!.
في ضوء ما ذكرنا يمكن أن تتمثل أمام أعيننا حقيقة الصمود الكبير الذي يواجه به المصريون؛ وفي مقدمتهم الإسلاميون؛ حالة القهر والقمع النادرة الذي يقوم به الحكم العسكري الانقلابي المسنود من قوى حزبية عمياء بعصبيتها ورغبتها المجنونة في التخلص من الخصم الذي يقف بينها وبين أطماعها في السلطة الرخيصة! فإذا تذكرنا ما كان يشاع عن سلبية المصريين واستكانتهم للظلم والسلطة (وخاصة بعد ستين عاماً من حكم العسكر والدولة البوليسية) ثم قارنا ما يحدث يومياً منذ الانقلاب العسكري؛ اتضحت أمام البصائر حقيقة المعادن الإنسانية التي تكشف عنها المصريون الثائرون في كل مكان في أرض الكنانة: في الشوارع والميادين، في المدن والقرى والبوادي، في الجامعات والمدارس والمعاهد.. الرجال والنساء.. المثقفون والعامة.. الأطباء والمهندسون والأكاديميون.. من الشمال إلى الجنوب ومن سيناء إلى مرسى مطروح في أقصى الغرب.. لا يفترون يوما ولا تنقطع احتجاجاتهم رغم القهر، والحصار، والدماء والقتل الرخيص، والاختطاف وانتهاك حرمات المنازل وحرقها.. وأسوأ من كل ذلك: رغم حملات التشويه والتزييف والافتراءات التي بلغ بها الإعلام المصري المؤيد للانقلاب قاع الإسفاف والنذالة في حق مواطنين مصريين، وبصورة لم يفعلها حتى مع الصهاينة يوم كانوا يحتلون ثمن مساحة مصر ويتربصون بها على بعد مائة كيلومتر من القاهرة!.
حتى في القرى والمحلات العزلاء التي حاصرها الأشاوس، وتعاملوا مع مواطنيهم كما يفعل جيش الاحتلال الصهيوني مع الفلسطينيين؛ حتى هنا لم يستسلم الأهالي للقمع، واستأنفوا احتجاجاتهم ليلا متحدين الرصاص والاعتقالات! ومع اختلاف الوسيلة التي استخدمها المصريون في ثورتهم ضد جيش نابليون عندما قاتلوه بكل ما توفر في أيدهم من سلاح أو خشب أو حديدة او أي شيء مما يستخدم في الزراعة أو الحدادة.. فإن القاسم المشترك النفسي الذي يمكن ملاحظته بين الحالة القديمة والحالة الراهنة هو إيمان الثائرين أن السكوت على سلطة العسكر الفرنسي أو المصري هو رضا بالهوان، والذل، وفقدان الكرامة الإنسانية التي ظنوا أن ثورة يناير قد قلبت صفحتها الأخيرة فإذا بها تعود وكأن شيئاً لم يكن.. وكما تمثل أمام المصريين حقيقة الثمن الذي سيدفعونه لاستكانتهم للفرنسيين فقد بدا واضحا من شعارات الانتفاضة القائمة أن المصريين يعلمون أن الانقلاب هو عودة جديدة لحكم أمن الدولة وأجهزة الدول البوليسية العتيقة، ومعها جماعات البلطجية وعصابات المخدرات والتهريب، وسرقة قوت الشعب، وعصابات الحرامية والفسدة من رجال الأعمال الذين جعلوا مصر العظيمة عالة على الآخرين، وفي مقدمة الدول في قوائم أمراض السرطان والكبد الوبائي.. وفي الحالتين عرف المصريون أن الموت أشرف من الحياة في ظل هؤلاء!
صمود وراء.. الشمس! صمود الرئيس المصري الشرعي محمد مرسي هو أحد مظاهر الصمود الأسطوري الذي كتب نهاية الانقلاب العسكري في لحظة ولادته.. وحقيقة الصمود يمكن ملاحظة أثرها السلبي على العسكر وأعوانهم في أنه أفقدهم لذة الشعور بالنصر، ويهدد شرعيتهم المزعومة أمام العالم. وبالمقارنة مع كثير من حالات اعتقال الرؤساء والملوك إثر الانقلاب عليهم واحتجازهم فإن صمود د. مرسي وتحديه للانقلابيين يمثل صفحة عزّ للرجل، وقدوة لصمود المصريين المؤيديين له، وحسرة وغما في قلوب المتآمرين عليه وعلى مصر.. ولذلك لا عجب أن نقرأ ونسمع من هؤلاء الأخيرين من يحاول التقليل من عظمة هذا الصمود بالإلحاح الهستيري أن مرسي لن يعود ولو حدث ما حدث.. كما أنهم يحاولون التقليل من الصمود العظيم للشعب في الشوارع والميادين بوصف ذلك بأنه عمل عبثي وغير حكيم، وأن على المحتجين أن يتحلوا بالواقعية، ويبطلوا شوشرة وقطع للطرقات (على حد تعبير الكاتب المعروف ومنظّر الانقلاب محمد حسنين هيكل).. وهو بالمناسبة نفس منطق المخلوع مبارك وأمثاله من المخلوعين الذين يواجهون غضبة شعوبهم!
"لا" الكبيرة التي أطلقها د. محمد مرسي والمصريون المعارضون للانقلاب العسكري تثير الجنون لدى العسكر وأذنابهم ممن باعوا شعاراتهم ولا نقول مبادئهم؛ فقد اتضح أنها مجرد شعارات قابلة للدهن والتلوين والتزييف بسهولة.. لكن "لا" الرافضة هي أعظم من أغاني السخرة والخضوع، وأقوى من طنعم ونعمين" التي تقال للعسكر اغتيالاً لحلم المصريين الطويل في أن يعيشوا أحراراً وجدعان لا عبيداً وجبناء تجمعهم طبلة وتفرقهم عصا كما يراد أن تتكرس في وجدانهم.. اليوم يقولها رئيس وحيد في معتقله، معزول عن العالم، مخطوف وراء الشمس (يطلق المصريون على اختطاف المواطنين واعتقالهم خارج القانون بأنه: وراء الشمس)، وتقولها معه ملايين تثور في الشوارع ليس عنادا ولا تعلقا بمكسب مادي.. فأي مكسب دنيوي في مقارعة سلطة غاشمة؟ وأي عناد هذا الذي يواجه جبروت أعتى دولة.. إن لم يكن وراء ذلك فهم وإيمان بعدالة القضية، وحق الإنسان المصري في أن يعيش حراً رافعاً رأسه في وجه الحاكم لا واضعا إياها تحت البيادة!
الأمر الآن في مصر ليس خلافاً بين الإسلاميين وبين العسكر وحلفائهم حول طريقة الحكم بل حول الحرية.. حرية المصريين في أن يعيشوا أحراراً وبين أن يظلوا عبيداً للبيادة العسكرية كما أريد لهم خلال الستين عاماً الماضية.. وهي فترة ليست هينة فقد تخلفت مصر فيها عن ركب المتقدمين، وتجاوزتها بلدان كانت صحارى ومستنقعات فصارت أسودا ونموراً، وقلاعاً صناعية وتجارية وزراعية بينما مصر تحت حكم العسكر بمراحله المختلفة.