الحوثي يقوّض سلطة الجمهورية، ليست هذه هي المرة الأولى التي يختلف فيها الحوثي مع الجمهورية. في البداية خاض الحوثي حروبه ضد الجمهورية تحت عنوان المظلومية التاريخية، تحدثوا طويلا عن مظلوميتهم من قبل السلطة والمجتمع، خاض الحوثي حروبه الست تحت هذا العنوان ووقفت معه أغلب القوى السياسية بوصف تلك الحرب حربا بلا معالم، يقف الناس دائما في صف المظلوم، ولهذا جاء إخوة يوسف أباهم عشاءً يبكون وهم ظالمون.
كان صالح في أوج القوة كعائلة، وفي أوج ضعفه كممثل للجمهورية، دارت الحرب بين جمهورية صالح الضعيفة ضد ملكية الحوثي، يرفع صالح عنوان الوطن بينما يتحدث الحوثي عن مظلومية تاريخية باسم الإنسان، في الحقيقة لم يَصدُق أيّ منهما، فالحوثي مثل صالح، مشاريع لا تنتمى للجمهورية ولا للشعب، بل للعائلة.
قامت الثورة، سقطت العائلة، بقيت الجمهورية التي انتعشت بدماء الثوار الجدد، تبصر بعيون جيل التحرير الجديد، وكان على الحوثي كي لا يصطدم بهذا المارد القادم أن يغير عناوين المعركة، العنوان المناسب هو استكمال الثورة ضد السعودية في الجوف هذه المرة.
في وسط الثورة كان الحوثي يحارب في الجوف كي يطهرها من السعودية، هذا هو العنوان الذي سيصدقه رفاق الثورة من الشباب الذين يرون أن السعودية احتالت على الثورة بمبادرة مفخخة.
فشلت المساعي هناك وفي حجة وغيرها، معارك بلا طائل وبلا مسؤولية وحتى بلا أخلاق تقدم القرابين والضحايا للبحث عن مشروع بلا ملامح.
عاد الحوثي يعمل ضمن اتجاهين، اتجاه يعمل في قاعات المؤتمرات كطرف سياسي يمكن أن يتدارك ما يفوت على الأرض، وآخر ينقص أرض الجمهورية من أطرافها وبالعناوين البراقة أيضاً.
الأمر تقريباً يُشبه حالة التضارب التي تصيب المشاهد للسينما الأمريكية في أفلام العنف والأكشن، ترى على الشاشة الكثير من العنف، ثم بالمقابل هناك حالة المجتمع المثالي في سلميته، الصورة عكسية هنا، فنحن نرى المشهد العنيف على الأرض في حين نرى السلمية والحوار والأخلاق العالية على الشاشات.
على الأرض سيكون العنوان كالتالي "رد اعتداء جماعات التكفير ومطاردة التكفيريين".
نعم، لقد كنا، على الأقل أتحدث عن نفسي، نتحدث عن السلفية بوصفها جماعة دينية لم يكن لها أن تختار دماج كمركز للسلفية، شخصياً كتبت مرارا عن هذه الجماعة التي ستعمل على مصادمة المجتمع وتنشئة العنف، دماج تقع ضمن المنطقة المعروفة بتوجهها الزيدي، وهذه لن تتجاور بسلام مع الفكر السلفي الذي يعتقد أن المذهب الزيدي هو مذهب للرافضة - كما يسميها السلفيون التقليديون الذين يسمون أنفسهم أهل السنة- في حالة اتهام واضح لكل من يخالفهم بوصفهم أهل البدعة أو الفسق أو الكفر.
هذا التوصيف ليس خاطئاً، لكنه ليس الحقيقة كلها، هو فقط يوفر العنوان لحرب أكبر من هذا العنوان العريض، إنها الحرب على الجمهورية التي لم يرفع لها الحوثي شعاراً ولا علماً منذ أن صار كياناً، الوقائع على الأرض هي من يجب أن نحاكم وها نحن نفعل.
جماعات التكفير هو العنوان فقط، كما سيتضح ذلك من خلال الحروب الأخرى التي صار من الصعب على أي متابع أن ينخدع بعناوينها.
هو إذن صراع في العمق بعناوين أخرى على السطح، صراع يقوم أساساً على أيديولوجية واضحة، أيديولوجية لا تؤمن بالدولة والمواطنة المتساوية وتتناقض مع مواثيق الحق العالمي للإنسان وتكفر تماما بالديمقراطية وهي قبل هذا كله لم ترفع علم الجمهورية.
تأخرت حرب دماج، سيكون من اللازم أن تتخلق العناوين الأكثر لمعاناً!
سيتخلق للحرب عنوان آخر، سيجري الحديث عن الحرب بوصفها الحرب التي تفكك المراكز القبلية لإكمال فكرة الثورة، هذا التوصيف الغريب صار ممكناً أيضاً في زمن غياب العقل.
وهكذا تتبدل العناوين باستمرار، يفتتون القبيلة ومراكز القوى التقليدية، في حين تكبر هذه المراكز وتتقوى، مرة بدافع الخوف من الاستئصال، ومرة أخرى بفعل الدعاية المجانية التي يقوم بها مثقفو الغفلة.
ليس هناك شيء يمكن أن يعزز دور القوى التقليدية مثل أن نمنحها هذه الأدوار.
تذكروا أن ذات الوسائل ظلت تردد بعض الأسماء في القبيلة وغيرها كوسيلة لابتزاز شباب الثورة بأنها مجرد دُمى تعمل لصالح القبيلة والشيخ، في النهاية يتعثر المشروع الوطني الجامع لينقسم الناس في النهاية بين أن يكونوا أنصاراً للشيخ أو للزعيم، أو شيئاً من هذا القبيل، بعيداً عن تصنيفات التغيير والثورة.
حظيت القبيلة باهتمام لم يصنعه لها سوى الإعلام التائه الذي يزعم أنه يحاربها!
من إذن كان يهدد نفوذ القبيلة، المشروع الوطني القائم على الروح الشبابية المنحازة للعدالة والحرية أم تلك التي لم ترَ في كل تلك الملايين إلا أنها مجموعة من الدّمى تأوي في النهاية إلى شيخ ذي مال أو قائد معسكر؟! بينما كان الهدف هو الخروج من مشروع الثورة والدخول في مشروع الشخص، فلا أحد سيرفض فكرة التغيير فيما لو كان الخيار بين التغيير وبين النظام القديم، لكن التخيير بين الأسماء والشخوص سيضمن أن ينقسم المجتمع إلى قسمين كبيرين لا يرون فرقاً بينهما.
يمكنك هنا أن تفهم سر ذلك الإصرار الذي عمدت فيه الآلة الإعلامية المصادمة لفكرة الثورة في محاولة اختزالها بأشخاص يملكون هؤلاء الملايين من المفكرين والباحثين والأطباء والمهندسين والطلاب وكافة فصائل المجتمع التي تعمل بإيقاع منتظم وبحماس منقطع النظير تم تذهب آخر الليل كي تستلم مستحقاتها من قائد واحد للثورة يمتلك المال كي يحرك كل هذه الآلة الأسطورية!
هناك دائماً ليس فقط من يصدق، بل من يرغب في التصديق أيضاً.
خدعت الجماهير، الخديعة لم تكن لأنها كفرت بالأشخاص، بل لأنها انقسمت فعلاً على المشروع الكبير، ليست الجماهير وحدها من خدع، حتى أولئك الموهومون بزعامة الثورة، أعجبتهم فكرة المسؤول والحامي، صدقوها وعاشوا الدور أيضاً، استلموا الدروع وبدأوا يتحدثون عن بطولات الوهم بسذاجة وحماقة ثم تناسوا دور الشباب الذي كان يبحث عن أمل ووطن، خرجت العناوين الخطأ، القوى الكبيرة، في حين توارى الشباب والمناضلون الحقيقيون تحت الستار.
يرقد الآن عميد الجرحى الأكحلي في المستشفى دون عناية، فيما تتكلس كل القوى وهي تلوك مفردة الثورة.
هكذا إذن كانت الحكاية، يركز الإعلام المراوغ بدرجة أساسية على الأشخاص، يتورط المتحمسون للدفاع عن الأشخاص، يعيش الأشخاص الدور في حين تتفكك العرى الأساسية لمنظومة الثورة ويصل الناس المخلصون إلى حالة من التيه والإحباط.
هناك امبراطورية إعلامية تعمل على صناعة العناوين باحترافية، وتسمي الأشياء بغير مسمياتها، الأسماء والعناوين هي أول ما يتعلمها الإنسان (وعلم آدم الأسماء كلها)، ومن الأسماء تبنِّي الجماهير قناعاتها، الإعلام الذي تحول لتجارة مربحة يوفر الكثير من الفرص للعاطلين عن العمل الأبرياء وغير الأبرياء الذين يجدون أنفسهم مجبرين على الصمت في أحسن أحوالهم، أو المداهنة والصمود في أحيان أخرى، فليس هناك فرصة أخرى توفِّرها الدولة ولا الثورة.
كثير من شباب الثورة المخلصين يرقدون في البيوت في انتظار الأمل، بينما يتعرضون للإغراء الكبير كي يكونوا أدوات في ذات الزفة التي قتلت رفاقهم!! ولأنهم أكبر من أن يبيعوا دماء الشهداء ودموع المفجوعين من عوائلهم انسحبوا في البيوت لا يقدرون على مقاومة الفاقة.
الكل هنا يتخلى عن الكل في معادلة سيكون طرفاً واحداً فيها هو الصفر، لا أعتقد أن أحداً يجهله!
الآن وفي حرب – أو حروب - الحوثي الجديدة، وبذات الطريقة التي يعتقدون أنها آتت أكلها، سيعمل هؤلاء الأذكياء على تمرير ذات اللعبة. فالحوثي يحارب القبيلة، وهذه الأخيرة لا تحظى بالرضا من الكثير من الأطياف، سيتورط المتحمسون للدفاع عن القبيلة والعائلة، سيكون النقاش حول من انتصر، فلان أم فلان، ينحاز الناس إلى ذات البيزنطية والجدل في حين يجري في الأثناء تفكيك الجمهورية والدولة والوطن.
سيتطوع الكثير ليحدثك عن الأمن في صعدة وعن الدولة الآمنة التي تتكون هناك بسلام كبير، في حين يتغافلون عن 306 آلاف نازح - بحسب تقارير الأممالمتحدة - يتم التعامل معهم كحقيقة خارج الديموجرافيا. فصعدة بلدة السلام وهذا اللقب الجميل يختبئ خلفه هذا العدد المرعب من اللاجئين الذين تمتنع الكثير من المنظمات الحقوقية عن زيارتهم؛ خوفاً من أن يتهموا بالتواطؤ مع الجمهورية، الجمهورية التي صار لها مسمى آخر مرّة باسم القبيلة ومرّة باسم الحزب وثالثة تكون جماعات التكفير وهكذا.
لم يعد أحد – بمن فيهم أنا – يتحدث عن فكرة الجمهورية عند الحوثي، الجمهورية التي ترفعت قنواته الإعلامية أن ترفع شعار الجمهورية في عيدها الخمسين، وبينما كان كل الوطن يتحدث عن الثورة السبتمبرية، كانوا هم يحتفلون بالعيد الحادي عشر للصرخة!!
حقوق الإنسان هي الأخرى ليست مطلوبة من الحوثي، أعني أنها قد سقطت بالتقادم في ذهن المجتمع والدولة والحقوقيين على السواء، لن يصنّف أحد حركة الحوثي بأنها حركة عنصرية تعتقد أن في السلالة والجين سبب للتميز، ولا عن علاقته الحقيقية مع المواثيق التي تحترم الحق الإنساني وتؤسس للمواطنة المتساوية وتتعامل مع المذهبية، باعتبارها معضلة اجتماعية وقضية خطرة تهدد النسيج الاجتماعي بالتمزق، كل هذه الأشياء سقطت دفعة واحدة دون أن نعرف حتى الآن سبباً واضحاً لكل هذا السقوط المريب، في الوقت الذي تحد فيه الألسنة وهي تزايد في ذات العناوين ضد أطراف أخرى.
الحوثي لن ينتصر على القبيلة، سينتصر على الجمهورية لو فعل، ذلك أمر ينبغي للنخب التائهة أن تتحدث عنه بوضوح، لأن المزايدات لن تسقط القبيلة ولا القوى شديدة التعقيد والتركيب، دائما تعيد هذه القوى إنتاج نفسها ضمن المعادلات الجديدة، لكن ستسقط المنظومة الوطنية بكامل أدبياتها، منظومة المواطنة والحقوق والحريات وحتى العلم الوطني.
أنا هنا كمواطن، أتمنى على الحوثي أن يسلم بالنظام الجمهوري - الذي يبدو أنه هو القوة الوحيدة التي حرصت على أن تغيّب هذه المفردة من وثيقة بن عمر وأخواتها - وبالمواطنة المتساوية المتجاوزة للون والعرق والفصيلة، ثم بعد ذلك نذهب سوياً في استكمال الثورة كيمنيين نناضل لرفع الظلم عن الإنسان، وكلنا ذات المظلوم.