تثير الأعداد المتنامية لمنظمات المجتمع المدني تساؤلات حول شرعية ظهورها وجدلاً حول مصادر تمويلها والآليات التي تتحكم بهذه المصادر, كما تُثار تساؤلات حول نطاق وفاعلية الدور الرقابي للدولة على هذه المنظمات, وإلى أي مدى يتم استغلالها كغطاء لتحقيق أهداف شخصية أو سياسية. يسلط التحقيق الضوء على منظمات المجتمع المدني ويناقش قضايا التمويل والرقابة الحكومية وأسباب طفرة الجمعيات والمنظمات دون وجود مشاريع حقيقية وملموسة على الأرض. تركز غالبية منظمات المجتمع المدني نشاطها في العمل الخيري لمواسم معينة، كما توجد منظمات لها أنشطة على مدار العام، وفي المقابل هناك منظمات لها أنشطة متعثرة، وأخرى مجمدة ليس لها أي نشاط، يتم تأسيسها لوقت محدد ولأغراض شخصية وسياسية، وما إن يكشف أمرها حتى تحذف من سجلات وزارة الشؤون الاجتماعية مؤقتا، لكنها تعود مجدداً حين تتسنى لها الظروف.
الرقابة محدودة هناك ما يقارب من 12000 منظمة يجب أن تزاول نشاطها في اليمن في إطار ثلاثة قوانين تنظم عملها، وهي قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية رقم (1) لعام 2001، ويتعلق بالمؤسسات والجمعيات الخيرية والثقافية والمهنية، وهناك منظمات تعمل في إطار قانون رقم (39) لعام 1998 للجمعيات والاتحادات التعاونية، كما توجد منظمات تعمل في إطار القانون رقم (35) ويتعلق بالنقابات المهنية والعمالية والحقوقية وغيرها من المنظمات.
وأعطى القانون وزارة الشؤون الاجتماعية ومكاتبها الصلاحيات الكاملة للرقابة القانونية وفقاً للتشريعات المنظمة لمنظمات المجتمع المدني، فالقانون يوجب على أي منظمة أو جمعية إصدار تصريح مزاولة عمل من الوزارة، إلا أن بعض الجمعيات لا تلتزم بهذه القوانين. فثمة جمعية خيرية زاولت نشاطها في اليمن لمدة عامين بدون ترخيص، واعترفت الجهات المسؤولة أنه تم تجميد رصيد الجمعية البنكي البالغ 94 مليون ريال، بعد أن أدى خلاف شخصي بين الشريكين (يمني وخليجي) لمعرفة أنها لم تكن تلتزم بإصدار ترخيص وكانت تعمل خارج إطار القانون.
وأرجع حميد معوضة نائب مدير عام الجمعيات والاتحادات في وزارة الشؤون الاجتماعية سبب التقصير إلى أن الوزارة لا تملك الإمكانات الكافية كي تقوم بالرقابة على أكمل وجه؛ وحمل السلطات المحلية جزءاً من المسؤولية.
ويوجد لدى وزارة الشؤون الاجتماعية فروع في المحافظات تقوم بالرقابة في حال اتساع نشاط المنظمات وبحسب الوزارة فقد تم تجميد 1200 منظمة ليس لها مقرات رئيسية، ولا توافي الوزارة بتقاريرها المالية والإدارية؛ وهناك جمعيات ظلت تمارس عملها رغم انتهاء صلاحية مزاولة عملها، بحسب نصر القاهري مدير إدارة المعلومات للمنظمات غير الحكومية.
أضاف القاهري: "من خلال الحصر تبين أن بعض الجمعيات والمنظمات انتهت صلاحية مزاولة عملها قانونيا منذ 5- 10 سنوات حتى أن بعضها لم يعد مقرها موجودا في الواقع وما تزال تعمل".
ولا ينحصر النطاق الإشرافي على الجمعيات والمنظمات في وزارة الشؤون الاجتماعية وإنما هناك أكثر من جهة رقابية، إذ يجب على أي منظمة أو جمعية أن تقدم تقارير مالية وإدارية وتقارير حساباتها الختامية لإدارة الرقابة والتفتيش في وزارة المالية، ويتضمن التقرير أهم البيانات المالية كالحسابات الختامية، وإذا لم تقدم المنظمة هذه التقارير تعد مخالفة للقانون ولا يجدد تصريح مزاولة عملها.
وأوضح مدير إدارة الرقابة والتفتيش خالد الصبري أن بعض هذه التقارير تعاني القصور فيما يخص البيانات المالية مما يشكل عبئاً على الموظف باستنتاج البيانات المالية وتحليلها وكيفية صرفها.
ويفرض قانون عمل الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني وجود تنسيق بين المنظمة والجهة الرسمية التي تعمل في مجال اختصاصها؛ إلا أن هذا التنسيق لا يمكن معرفة مدى فعاليته ونطاقه في ظل فساد الجهات المسؤولة.
صعوبة إلغاء أي منظمة أو جمعية لا تستطيع وزارة الشؤون الاجتماعية أن تلغي أياً من منظمات المجتمع المدني بشكل نهائي في ظل الصلاحيات المخولة لها قانونيا ما لم يكن هناك أمر قضائي يصدر بحلها.
وأكد مدير إدارة المعلومات للمنظمات غير الحكومية صعوبة إلغاء أي منظمة نهائياً بحكم قضائي، موضحاً أن الحكم القضائي يتطلب أموالا ضخمة في حين أن المصروفات القضائية المخصصة للوزارة لا تتجاوز مائتي ألف ؛وتشمل هذه الصعوبة المنظمات التي انتهت تراخيصها.
وتعد نيابة الاموال العامة من الجهات المخولة بإيقاف نشاط الجمعيات أو المنظمات بشكل نهائي في حالة وجود مخالفة.
تمويل بلا رقيب تحظى منظمات المجتمع المدني بتمويل رسمي من الحكومة؛ تقوم الدولة خلاله بصرف 400 مليون ريال لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل كي تقوم بتمويل منظمات المجتمع المدني وفق ضوابط وشروط قانونية. وعن تحديد المبالغ المالية للمنظمات والجمعيات والجهة المسؤولة عن ذلك؛ قال مدير إدارة المعلومات للمنظمات غير الحكومية أن وزارة الشؤون الاجتماعية غير مسؤولة عن تحديد الدعم المالي الحكومي كون وزارة المالية هي المسؤولة.
وأوضح مدير إدارة الرقابة والتفتيش أن الدعم المالي الحكومي للجمعيات والمنظمات يحدد من رئاسة الوزراء وفق قرار صادر من مجلس الوزراء, مشيرا إلى أن وزارة المالية ينحصر دورها في تنفيذ القرار من خلال إبلاغ الجهات الحكومية المعنية بالمبالغ التي تم اعتمادها ومنها وزارة الشؤون الاجتماعية, وذكر أن لكل جمعية أو منظمة سقف مالي محدد يوضع في الاعتبار عند اعتماد موازنة الدولة في وزارة المالية.
وتوجد جمعيات تعمل في المجال الصحي لا تتلقى أي دعم حكومي, وتحدث مسؤول في أحدى هذه الجمعيات عن إهمال وزارتي الشؤون الاجتماعية بالقول "نحن لا نتلقى أي دعم من وزارة الشؤون الاجتماعية رغم أن القانون يلزم وزارة الشؤون الاجتماعية بتقديم دعم مالي لأي جمعية مرخص لها وتمارس نشاط مجتمعي فعال".
وتوجد منظمات وجمعيات تتلقى دعما ماليا من جهات غير رسمية منها منظمات دولية ودول مانحة ويفترض أن يتم ذلك الدعم المالي عبر وزارة التخطيط والتعاون الدولي.
ووجدت بعض المنظمات تتجاوز القانون بعدم إشعار وزارة الشؤون الاجتماعية بمصدر تلقيها للتمويل يعود ذلك إلى إغفال الدولة عن رقابة هذا التمويل ولا توجد آليات تنظم عملية تدفق هذه الأموال، فأكد نائب مدير عام الجمعيات والاتحادات بأنه لا توجد آلية تنسيق بين وزارة التخطيط الدولي ووزارة الشؤون الاجتماعية بخصوص تمويل المنظمات والجمعيات في حين أن القانون يوجب التنسيق بين الوزارتين.
وأشار إلى أن جهات لم يسمها أدت إلى إفشال إنشاء صندوق لتنظيم آلية تمويل المنظمات والجمعيات عندما يتعلق التمويل بجهات غير خارجية.
أهداف معلنة ولكن وجدت العديد من الجمعيات والمنظمات التي ظهرت مؤخراً (خلال الثلاثة الأعوام الماضية) مستغلة الوضع القائم ومفاهيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان لتحقيق أهداف سياسية وحزبية.
ويعد الحياد السياسي أحد مبادئ العمل الاجتماعي والخيري المنصوص في قانون عمل المنظمات والجمعيات؛ ويشير مدير عام الجمعيات والاتحادات إلى وجود كثير من منظمات المجتمع المدني العاملة خاصة في المجال الحقوقي والقانوني تمارس عملها لتحقيق أهداف سياسية, في مخالفة للوائح والقوانين الخاصة بمنظمات المجتمع المدني.
ويعد غياب القوانين الرادعة فضلاً عن عدم الالتزام بالقوانين من أصحاب الجمعيات والدور الرقابي غير الفعال للجهات المسؤولة سبباً لانتشار منظمات المجتمع المدني بشكل لا يخدم المجتمع وإنما لتحقيق مصالح شخصية, كما أن بعض الجمعيات الخيرية وإن كانت لها أنشطة ملموسة فأن الجهات المسؤولة بدلا من تقديم الدعم المالي لها تقوم بأخذ مبلغ مالي مقابل الترخيص وهذا ما يجعل هذه الجمعيات تغلق في كثير من الأحيان وتظهر بدلا عنها جمعيات ملتوية ذات أهداف ربحية.
وتقول موظفة كانت تعمل في أحدى الجمعيات الخيرية "لم يكن للجمعية أي نشاط فعلي على أرض الواقع وكان هدفها الأساسي الربح وجمع الأموال من خلال توزيع ارساليات إلى السفارات الأجنبية لتتلقى الدعم وكانت توهمهم بإقامة مشاريع خيرية للأيتام" وعن الأموال التي يتم جمعها قالت "يتم صرف الأموال كرواتب للعاملين داخل الجمعية فيما صاحبة الجمعية يكون لها النصيب الأكبر منها" وما تزال الجمعية قائمة حتى اليوم.
يبقى ملف منظمات المجتمع المدني مفتوحاً أمام مبتزين جدد لحالة الشعب الذي يمر بحالة مأسوية في ظل غياب الرقابة والتشريعات التي تحدد آليات عملها وتراقب أداءها للمواطنين المطالبين بإصلاح أوضاعهم المعيشية بأي طريقة بتمويل حكومي أو عبر منظمات يفترض أنها أقرب إلى المواطن من الحكومة وهي أدرى بالاحتياجات في ظل فقدان الحكومة لدورها.